موقف الكتاب المجيد من قضية (تعدد الزوجات) -2-
    الثلاثاء 29 يناير / كانون الثاني 2019 - 22:51
    آية الله الشيخ إياد الركابي
    في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا  عن  مفهوم  تعدد الزوجات وموقف الكتاب المجيد منه   ، وقد  دل الدليل  على  إن هذا المفهوم  قد أُسيء  أستخدامه  وفهمه  ،   وخلط  وأستُبدل  في معناه   بينه وبين غيره    ،   فالتعدد في الزواج    كما قلنا   هو مستحيل  بل غير ممكن  -  ،   وإن ما يفعله عامة الناس  في هذا المجال ليس صحيحاً لأنه يعتمد في الأساس  على  أخبار و فتاوى  مخالفة  لما ورد في الكتاب  المجيد  .
     ومعلوم أن  فقهاء التراث  وبعملية لا نفهمها   خلطوا  بين مفهومي ومصطلحي  -  النكاح  والزواج -    وجعلوا  منهما  معنا واحدا    ،  لكن  الكتاب المجيد  لما  أباح  التعدد  جعله  مقيدا ومحصوراً  في النكاح  والذي هو المتعة أو التمتع  ،  وذلك  لغاية  معلومة  منه  تُلبي  الحاجة  والغريزة  ،   وبما إن  هذه الحاجة  وهذه الغريزة متغيرة  بحسب الوضع   ،  لذلك  ربط  الكتاب  مفهوم  التعدد  بذلك  مع آلية  الزمن المحدد والمعين   ،  و ذلك لتعلق الأمر ليس فقط بالقدرة بل والرغبة أيضاً وإمكانية التعايش .
     لذلك  قال    : -  [  أنكحوا  ماطاب لكم  من النساء  مثنى وثلاث  ورُباع .. ]  -  ،  وفي هذا  النص  نرى الدور  واضحاً  كذلك   الملازمة  بين فعل  -  أنكحوا   -   وفعل -    طاب  -   مع الأسم الموصول  ،   يدل  على  الشيء  الطيب أو  ذلك  الشيء الحسن الذي تركنون إليه أو تودون معاشرته  ، ولعل  أن  مفهوم  - ما تودون معاشرته -   هو أقرب المصاديق  للمُراد  بلحاظ  وجود  فعل  -  أنكحوا -    ،  وقد  ركز  الكتاب المجيد  على ذلك  من باب  الموافقة التحصيلية     ، ولا نظن إن من منعوا أو أبطلوا (  نكاح المتعة )  أستندوا  في حجتهم  إلى دليل من الكتاب واضح ورزين  ، إنما هو  الهوى  ولنقل  هو  المنع  السلطاني  المرتبط  بالحاجة والضرورة بحسب  ظرفي  الزمان والمكان ، ولا يمكننا  إعتبار  هذا المنع  بمثابة الحكم الشرعي  المستند  على دليل  من الكتاب  ،   إنما هو وبحسب الظن الغالب  كان المنع مرتبطاً برؤية الحاكم للمصلحة من ذلك  وحسب مقاسات الزمان والمكان  المعينين   ،  وليس هو حكماً  شرعياً  يجري  ويدوم  في كل زمان  ومكان   ، وهذا ما نفهمه  من  حكم  الخليفة عمر بن الخطاب  ،  إذ لا يجوز بحال إعتبار المنع  منه  بمثابة الحرمة الشرعية  المؤبدة  والملزمة  للجميع في كل زمان ومكان  ،  كما يروج لذلك بعض الأتباع والمريدين   .
     وإذا  كان ذلك كذلك   ،  فيمكننا   إستصحاب  القاعدة الأصولية  والقائلة    : - (  إن الأحكام  تتغير تبعاً لتغير الزمان والمكان )   -  ،  مع التنبيه  والإشارة  إلى  إن  هذه القاعدة ليست حكماً  شرعياً  بقدر ما تكون حلاً  عقلائياً   ،   خاصة ً  في ظل الإضطراب  و  التفاوت  المفهومي والدلالي ،  أضف إلى هذا إن  ما أفتى  به  -  حكم عمر بن الخطاب -  لا يتعدى  من كونه   -  منعاً  مقيداً  بالزمان والمكان  -  هذا إن إعتبرنا  صحة ماروي عنه  في ذلك   .
      وفي هذا  نقول  إنه  : -  ليس  من حق  أحدا  ما  كائنا  من يكون  في أن يُحلل أو يُحرم -  ،  ذلك إن  التحليل والتحريم  هي من شؤونات  الله خاصة   ،  أي  هي من إختصاصه  وحده سبحانه  ،   وليست هي  من صلاحيات  الحاكم الزمني  ،  ولو تنزلنا  وقبلنا  عمر بن الخطاب في هذا الشأن  ،  إذن لا بد  من القول : - إن ذلك منه  ليس   سوى إجتهاد  سلطاني  زمني  محكوم  بظروفه وطبيعته والأسس التي أرتكز عليها  -   ،   و مع إن ذلك  منه  ليس مهماً لنا  ، إذ إننا لا نتعبد بحكم الرجال   ،  ولكن   المهم  في الأمر هو تلك  التبعات  التي أعقبت هذه  الفتيا ،  مما أدى  بالبعض  من القوم إعتبار إجتهاد عمر بن الخطاب حكماً شرعياً ملزماً للجميع   ،  وهذه  مغالطة بل مفارقة وهي  واحدة من الأشياء التي أعاقة  فهم  نصوص الكتاب المجيد والإستفادة منها   .
    ولها نقول : -  إن نكاح المتعة  جائز شرعاً  وعقلاً   -  وضمن شروطه الموضوعية الضامنة لصحته   ،  وإن توفرت  هذه الشروط على نحوها الصحيح  فلا بأس  بذذلك  مع وجود  (  الحاجة والمصلحة والقدرة والإستطاعة  )   ،   ثم إن  الملاك  والمناط   في الجواز  هو  صحة  العلاقة الجنسية  المنصوص عليها  والمُرادة  في ذاتها لذاتها  [   وكما هي الغرائز والشهوات  تدخل في باب الحريات  الشخصية  ]   ،  والكلام هنا  في أصل الجواز  وليس  في التفاصيل  التي قد يُناكف بها البعض لعدم الضبط والإلزام    .
     وأما ما يترتب على أصل نكاح  المتعة  من أحكام وتبعات من أطفال وذرية  ،  فيخضع  القول فيه  وفي أحكامه   لنفس  أحكام ونواميس الزواج  تماماً  ،   من  شرط النسب والضمان والحماية والتوريث وكل ما يتعلق بالأولاد الصلبيين  ،  وهذا في الأصل التشريعي  لصحة  هذه العلاقة ومشروعيتها  ،  ومثالنا الدائم في هذا  ما فعله  نبي الله موسى  ،  ولم يُذكر إن موسى النبي قد تخلى عن ذريته وأبنائه  ،  وفي ذلك  يكون فعله  الدليل على  صحة النسب والتوريث والحماية والضمان  ويجري  هذا  كذلك  بالنسبة لعامة الناس ،   من غير  تفاوت أو إختلاف  .
    نعم إن كتب الفقه  التراثي مليئة بكثير من الشطط  والوهن  ،  وإن الكثير  مما كتبه الفقهاء ودونوه   لا يصلح  في المقام  ولا يصح تداوله اليوم  ،  خاصةً تلك الفتاوى الفجة والتي  تخالف النصوص المجيدة  ولا تلتزم بالقواعد  تلك   ،  والكثير منها  كُتب من غير تحقيق أو تدقيق إنما  نُسخت  نسخاً  عن الغير   ،  وكلامنا  هذا نقصد به  بعض القوم   ممن له شخصية إعتبارية  ومع ذلك فهو  يفتي  بجواز التمتع بالزانية وذات العلم !!!   ،  مع علمهم إن تلك  مخالفة  صريحة لكتاب الله المجيد  الذي  قال  : - [  الزاني لا ينكح إلاَّ  زانية .. والزانية لا ينكحها إلاَّ زان .. أو مشرك  وحُرم ذلك على المؤمنين ] -  النور 3   ،  وشرط الصحة  في النكاح المسموح  به  ،  هو تلك  القاعدة الشرعية  التي عليها التقرير   .
     ونسأل  هنا  :   من أين أتت الجرئه  لدى  بعض  الفقهاء  لكي يفتي ويجيز   التمتع بالزانية  ؟؟؟ !!!  .
    والجواب    :   لا يخلو الأمر من قلة وعي أو  محاولة تبرير وإيجاد  سبيل  يحد  من  الظواهر السيئة   ،  كما إن ما أعتمده  الفقهاء  من أخبار في هذا الشأن ليست على ما ينبغي  ،  ولذلك  نقول : - إن أقوالهم في هذا الشأن متهافته  وباطلة  ولا يعتد بها  -   ،   ونضيف  :  -  بأن  المدة  التي لا يحصل من وراءها  براءة الأرحام وطهارتها  لا يتم بها عقد نكاح المتعة ولا يصح -  ،  ولذلك فالعقود ذات الأجل القصير لا  يصح بها عقد المتعة ولا يجوز ،  لأن الأصل هو براءة الأرحام  و  لما يستتبع ذلك من لواحق  معلومة   ..
    وزيادةً  في الإيضاح   نقول  : -  إن  مشروعية  (  نكاح المتعة )   شيء  وممارسته  شيء أخر -   ،  والكلام هنا  وفي مجمل البحث  عن  المشروعية  المحكي عنها  والمستمرة  ،  وذلك ما نرآه واضحاً  في القول التالي   : - [  .. وإمرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها  خالصة لك من دون المؤمنين .. ] – الأحزاب 50  ،   ثم إن  ضبط  و تطبيق تلك المشروعية على المفردات  يلزمه ضبط   وتطبيق  الشروط الموضوعية الضرورية واللازمة  في ذلك   ،  ولا يذهبن  بكم الخيال  لتجريد النصوص من سياقاتها ومعانيها الموضوعية    ،   -  فالهبة -   مثلاً   هنا  جاءت مقيدة بفعل   النكاح  ومفهومه  الدال على الإستمتاع   ،  ولا يجوز النظر إليها   من  خارج  دائرة  وحرية العلاقات الجنسية  المسموح بها  والمقررة  في  الكتاب المجيد     ،   وأما التقيد الوارد  في النص  فلا يتعلق بمشروعية نكاح التمتع   بل   بخاصية  قوله   -  (  خالصة لك  )   -   ،  أعني إن   المتعلق بالخصوص   ليس   -   النكاح  بذاته   -   بل  صيانة  ساحة النبوة  من العبث والقيل والقال وترصد  الأعداء   ،  وفي هذا المعنى  صلة  شبه  أكيدة في المُراد من  قوله تعالى : -  [  يا نساء النبي لستن كأحد من النساء .. ]  -  الأحزاب 32  ،    لذلك حرص الكتاب المجيد  للعناية بها وصونها  وحمايتها  من الغير   ،   وهذا منه متعلق  بأصل النبوة  و شخص النبي  ،  ولذلك  وتدعيماً لهذه الفكرة  ورد في السياق نفسه  قوله تعالى   : - [ .. وأزواجه أمهاتهم .. ] -  الأحزاب  6  ،   أي جعل عامة ما يقع  مصداقاً  في هذا المجال  من النساء بمثابة الأمهات من حيث الحرمة والقدسية  ، ومنه نفهم  قوله تعالى   - خالصة  لك  -   من دون المؤمنين  .
    وفي  بحثنا عن  النبوة  قلنا    : -   إن فعل النبي ليس صالحاً  للتأسي والإقتداء  -   ،    (  وفعل النبي  هو غير فعل الرسول  )   ،  ففعل الرسول  له القابلية على ذلك   لأنه يرتبط بالنظام والقانون  والحاكمية والأمامة  ،  وهذه أشياء   تكون مثلاً  وحجة على الغير عكس فعل النبي الذي لا يكون كذلك   ،   قال  تعالى : - [  لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .. ] – الأحزاب 21  ،  وعبارة   (  كان لكم  )    أي   -  إن  لكم   -  على النصب  في سياق التبعية الولائية للرسول   ،  ولم يقل  : -  (  لقد كان لكم في نبي الله أسوة حسنة )   -   ،  وكذلك   قال تعالى : - [  وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا . ] – الحشر 7  ، ولم يقل : -  ( وما آتاكم النبي فخذوه  )   -   ومعنى ذلك : -   إن دور النبي  يختلف  عن دور الرسول  ،  ووضع النبي  يختلف  كذلك عن وضع الرسول   وطبيعة النبي  صفة وموضوعاً مختلفة عن طبيعة الرسول صفة وموضوعاً   -      ،  ومن هنا فأحكام النبوة   هي  غير  أحكام الرسالة    ،   وذلك  واضح  وجلي  ،  ففي قضية  القتال  التي هي قضية فطرية  ربطها الكتاب المجيد  بالنبي  ولم يربطها  بالرسول  في مجال التحشيد  وشد الأزر    ،  قال تعالى   : -  [ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال .. ] -  الأنفال 65  ،  ولم يقل –  ( يا أيها الرسول حرض المؤمنين على القتال   )    -  ،  ذلك   لأن القتال المشروع  في اصله  هو دفاع فطري   ،   وفي الدفاع  لا نحتاج   إلى تشريع   بل  نحتاج إلى تذكير  وبلاغ وحماسة وتحشيد  وشد  أزر  ،  ومعلوم  إن القتال المسموح  هو ذلك  القتال الذي يكون  في رد الظلم والدفاع  عن المظلوم   ،  قال  تعالى   : - [ أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا .. ] -  الحج 39  ،  فالقتال المسموح  والمأذون  به  شرعاً  هو ذلك القتال من أجل دفع الظلم  (  وحين يقول  الكتاب  -  حرض المؤمنين  - ،  فالكلام فيه  لا يتعدى هذا المعنى الذي ذهبنا إليه  ،  إذ  ليس مسموحاً  القتال الأبتدائي   )   ،  والذي من  مصاديقه   القتال  من أجل الدعوة إلى  الإسلام  ونشره  أبتداءاً  وهذا باطل  لا يجوز  ،   وهو  ما توهم  به الشافعي وتبعه في  ذلك عامة فقهاء التراث  مع الأسف  ،  وكما قلنا  إن  القتال  المأذون  به  هو ما  يرتبط بالفطرة   .
    وبما إن الزواج  والنكاح  كذلك يرتبطان بالفطرة    ،   لذلك  جعلهما الكتاب من   لوازم  النبوة   كالقتال   ،   والكلام هنا عن المشروعية  وليس عما يترتب  لا حقاً عليهما من أحكام   ،  فذلك  محله الرسالة  بإعتبارها قوانين تحكم سير العملية التنظيمية للحياة   .
    ولكن   هل يصح  للنبي ما لا يصح لغيره من الأفعال  ؟  .
       والجواب  :  نعم  يصح  للنبي  ما  لا يصح  لغيره   ،   ويكون ذلك كذلك  لخاصية النبوة  ،  فعلى سبيل المثال  ثبت إنه قد  : -  صح  للنبي الزواج بأكثر من إمرأة  -  ،   ولكن هذا الشيء لا يصح  لعامة  الناس  ،   أما  لماذا يصح له ذلك ولا يصح لغيره  ؟  ،  فالظن الغالب  عندي  في ذلك  يعود  في الأصل لحاجة  النبي  و النبوة لمريدين ومصدقين وأعوان ،  وفي هذا يكون الفعل في التعدد  له صلة بمفهوم  -  تقريب القلوب  إلى الدعوة وإلى النبوة -  ،  وهذا الفعل  ليس تبريراً  بل  هو تكيتكاً   مسموحاً  به  ،  مع وجود الحاجة والمصلحة  ،   وقد ثبت بالدليل  صحة  :   مفهوم المؤلفة قلوبهم   إنما  أنطلق  ذلك  من حاجة ومصلحة  ،  مما يكون له أثراً ومنفعة  مطلوبة   في ذاتها لذاتها  ،  وسنزيد  في القول  : -  إن  الغرض  من ذلك  دفع  الذرائع ،  والتخفيف   من  حدة  التناقض  والبغضاء   ،  وفي المقابل  جر الناس إلى ساحة النبوة  والتعاطي معها من غير  تفريط  أو حساسية  زائدة     ،  ولهذا نفهم المُراد من  قوله تعالى   :  - [  ولو كنت  فضاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك .. ] -  آل عمران 159  .

    يتبع 

    آية الله الشيخ إياد الركابي
    23 جمادي الأولى 1440

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media