الإمامة.. أولاً
    الأربعاء 13 فبراير / شباط 2019 - 20:46
    آية الله الشيخ إياد الركابي
    مقدمة :
    نقول :  لقد  أخطأ  العلامه الحلي  في وصفه  للإمامة بأنها   : -  [  رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي  ] -   الباب الحادي عشر للحلي   ،   والخطأ نقرئه  في أصل  التوصيف  لأنه أعتمد على كلمات عامة ، ولا ربط لها  بمفهوم الإمامة ودلالتها   ،   فقوله  : إنها  رياسة  عامة  !!  ،  في أمور الدين والدنيا !!  ،   نيابة عن النبي !!  ،  قول غير مفهوم  في المُراد  من عموم  معنى الرئاسة ،  كذلك  الربط بينها  وبين النبوة  مجازفة  غير دقيقة   ،  بل  إخلال  في موضوعة  الإمامة   بإعتبارها   قضية  إجتماعية  وحاجة  في موضوعها وفي محمولها   ،  فالرئيس  لا يكون رئيساً إلاَّ بالإنتخاب  أو الإختيار   ،  وهذا يعني  نفي  كونها نيابة  أو أنها  هبة أو وصية أو تنصيباً   ،  فكل هذه الأوصاف لا تنسجم  و طبيعة الفاعل فيها  والذين  هم  الناس لا غير ،  فهم أصحاب الشأن في إختيار من يكون رئيسا عليهم فينصبوه    .
      ونقول  :   لا يكون الإمام  نائباً  عن النبي  بأي نحو  ،   ذلك أن   موضوعة  النبوة  قضية إلهية محضة  تكون  بالإصطفاء من قبل الله ،   والنبي  لا يكون منصوباً  أو مختاراً من قبل الناس   ،  فيصح  معه  ان يكون منصبه  قابلا للنيابة   ،  وفي ذلك المعنى  تحديداً  لا تصح النيابة  ولا تصح الوصية ولا يصح التنصيب   .
      أذن  فحينما   نقول  : إن  الحلي  قد أخطأ  في التوصيف  فنحن نعني ما نقول   ،   وذلك  لأن الكلام  في  شأن الإمامة   وطبيعتها  مرتبطة  بالناس وبشؤوناتهم  ،  هي إذن  :  (   عبارة عن  حكومة تنفيذية ترتبط  في مهامها   بالرسالة  )   ، وفي هذا نكون  قد  أخرجنا  الإمامة   من النبوة  وطبيعتها  وما يتعلق  بها  ،   وبهذا يمكننا القول   :  (   هي  نيابة  عن الرسول  في أمور الدين والدنيا   )  وهذا القول على نحو الإعتبار لا الحقيقة  ،  بإعتبار كونه حاكماً ورئيساً   ،  فالأمر والنهي  والقضاء  وجميع شؤونات السلطة والحاكمية  هي من مهام الرسول   ،  وكذا  يكون  بالتبعية  من مهام  الإمام   أي  (  الحاكم  أو الرئيس )  ،  فمهام الإمام  من مهام الرسول  ومهام الإمامة من مهام الرسالة  لا النبوة  ،   وهذا الكلام  من جهة الوصف  و تعيين  المصداق   ،    ولكي  يكون الوصف  صحيحاً  يجب ان يكون منسجماً  مع معنى الموصوف   .
      ولزيادة  في الإيضاح  نقول   :   [  الإمامة  هي  سلطة  زمنية  تستقي  فعلها وعناصر  قوتها  من الرسالة  ،   بلحاظ  كونها  مؤوسسة  من أجل  تنفيذ القوانين والتشريعات وإجرائها  ]   ،  والإمام يكون رسولاً  من هذه  الحيثية  وليس من جهة الشخصية  ،  فالرسول أو الإمام  هو عنصر بشري يجري عليه  ما يجري على عامة الناس  ،  من جهة تطبيق القانون  وإجرائه   ،  ولا يتعلق  الأمر بشخص الرسول  من حيث هو   ،  لذلك قال :    (  أفإن  مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم )  -  آل عمران 144   ،  وحتى حينما يقول النص  : - [ وما آتاكم الرسول فخذوه  ] -   الحشر 7      ،  إنما  يعني  إن ما  جاء للرسول من تعليمات فعليكم بالأخذ بها   وتنفيذها   ،  وشرط التنفيذ  متعلق  بما يحكم  به الزمان والمكان من حيث الطبيعة والإنسجام والموافقة    ،  ونفس الشيء  يُقال  في معنى قوله تعالى   : - [  أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .. ] -  النساء 59     ،  ومفهوم  الطاعة  هنا  هو إطاعة ما جاء به الرسول من تعليمات ومن أوامر ونواهي   ،  وليس إطاعة الرسول  من حيث هو هو ،  فهذا شيء أخر  إنما  المتعلق   في الطاعة  هو طاعة الرسالة وما فيها     ،  من قوانين وتشريعات  ،  هذا  هو الظاهر  وفي المقام الأول  ،  وبما إن الرسول  هو المنفذ  والمجري لهذا القانون في زمانه فتلزم طاعته  من هذا الباب ،  ويعني  هذا  إن  الأمر بالطاعة متعلقق بالرسالة  أي طاعة الرسالة ومن ينفذها في كل زمان وفي كل مكان  ،  والمعيار في ذلك هو المفهوم  وليس المصداق  لأن المصداق متغير بحسب الزمان والمكان .
     والفصل الذي نقصده  بين الرسول والرسالة   فصلاً  إعتبارياً  لا فصلاً حقيقياً   ،  أعني هو فصل  في الجانب الإجرائي وما يتعلق بفهم النصوص وشرحها والإجتهاد فيها  ، وفي مسألة الإمامة  كذلك  فنحن نشير  إلى الإمام   لا بصفته  الشخصية  بل بصفته الإعتبارية الدائمة والمتغيرة بحسب  الزمان والمكان  ،   بمعنى  إن  الشخصية  مفهوما زمنيا  إعتباريا   لا يجوز  فيه  التعلق بها  أو تسوية الأمور حسب مواصفاتها  الشخصيه  لأن ذلك غير ممكن    .
     ومع التطور الإجتماعي والإقتصادي  وتنامي دور المعلومات وسيادة النزعة الوطنية تقلص  دور الإمام بالمعنى  التاريخي   ، ولم يعد   مفهوم  الخليفة الإمام  أوالسلطان  مقبولاً  في ظل  التطور العلمي لمفهوم الحكم   ،  ومن هنا  تجذر  المفهوم  الجغرافي للوطن  الذي لم يعد يتسع  لمساحات واسعة    ،   فأصبح  لكل وطن وقوم أماماً خاصاً لهم  ينتخبونه من بينهم  ضمن مواصفات إجتماعية وسياسية معينة    ...
    نعم  إن هناك  خللاً  مفاهيمياً  في الفكر الإسلامي  ،   يلف فكرة  الإمامة  ككل ،  ويبدأ  من  خلال  الإعتماد المغلوط  على  أخبار وروايات  غير صحيحة في تأسيس الإمامة والبناء عليها    ،  ومن بين تلك  الأخبار  قولهم  ا : -   (  الائمة  أثنى عشر وكلهم من قريش ) -   ،  فالتأسيس  لمفهوم الإمامة  إسلامياً  أنطلق  من هذا الوضع   ،  ومنه أبتدأت  المغالطة  والخرافة   ونمت وترعرعت  وكبر عودها  ،  وصيغ حولها القصص والحكايا    ،  والتي أنتهت  بسيادة  الغلو  والتطرف  وكثرة الأخبار التي روجت لذلك  ،  وهذا ما  نجده  واضحاً  في كتب الروايات والأخبار  الإسلامية  .
    والبحث في سند الخبر أرشدنا  إلى جميع رواته   من الكذابين الوضاعين الذين لا يعتد بهم ،  ومع إن البحث في الخبر وسنده   لا يعنينا لكن ومن باب الإشارة والتذكير  جئنا به   ،  وأما  المعمول عندنا  فهو كتاب الله المجيد  وما يقول  به  العقل في هذا الشأن  ،   فالخبر  حسب قواعد الكتاب ونصوصه  (  خبر متهافت  )  ولا يصلح  في  التأسيس والبناء عليه   ،  كما إنه لا يصح نسبة التهافت لرسول الله  أو إنه  عليه السلام  يتبنى   هذه  الفكرة وبأن يكون الخلفاء  من بعده  أثنى عشر  وكلهم من قريش  .
       فالخلافة  بمفهومها العام  هي سلطة  زمنية  و ليست  وهبية ولا كسبية  ولا نصيه   ،  إنما  هي  سلطة إجتماعية  في التأسيس والبناء   ،   كما لا يصح  الإعتماد  على هذا الخبر ،  لأنه يجعل من الرسول  هو المؤوسس  لفكرة القومية والتعصب العنصري   ،  وهذا يناقض  ما جاء في وصف وما  نفهمه  من قوله  تعالى  :  - (  وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين  )  -  الأنبياء  107  ،  وماورد  في المأثور عنه عليه السلام   : -  (  لا فضل لعربي على أعجمي إلاَّ بالتقوى )  -     ،  وهذا  الكلام  يتجاوز  البعد الضيق  للإنتماء القومي أو القبلي أو المناطقي    ،   والمعيار  عنده هو  في  العمل الصالح   .
    نعم شكل هذا  الخبر دافعاً  للبعض   للقيام بتمرد  مشروع  على فكرة الإحتواء القهري الذي يمارس من قبل قوى السلطة   ،   إذ ذاك  يعني  حذف  متعمد لمفهوم السلطة كمؤوسسة إجتماعية تكون وتكبر و تنمو بالإنتخاب  (  الشورى  و الديمقراطية )   ،  ناهيك  من كون  هذا الخبر المسخ يعارض بوضوح نصوص الكتاب المجيد  ،   الداعية إلى التساوي في الحقوق وفي الواجبات  من غير تمييز  أو تفاوت طبقي أو أثني  ،  كما إن من المفيد  الإشارة إلى   أخبار  تعارض  ذلك  و تعلن  بصراحة  رفض فكرة التفاضل حسب النسب والعشيرة  ،   وجعلت  من التفاضل المحمود  بالعلم  والعمل والتقوى  وهي مفاهيم  مجردة  مطروحة للعموم  ،  وليست هي من  خواص  أو  من  ممتلكات قريش أو أنصار قريش  ، ففي المأثور قوله عليه السلام    :  (  والله لعبد حبشي يطيع الله خير من سيد قرشي يعصي الله    )  .
      ولا يجوز  حصر  الأفضلية في  الطقوس والممارسات  والشعائر    ،  بل تكون بالعمل  الصالح  وبالتقوى  وإن كانت الثانية  شأن خاص  لا يدخل في مجال التنافس  والتفاضل بل يجده العبد عند الله    ،  والذي عليه  المعول  : -  إن هذا  القول عام  مطلق  ويتناول حركة الإنسان في مطلق الزمان والمكان   -  ،   ومن غير تصنيف أو علامات فارقة  أفترضتها الذهنية المتخلفة    ،  والكتاب المجيد  كذلك  يصدح  بمقولته الشهيرة : - [  إن أكرمكم عند الله أتقآكم  ] -  الحجرات 13   ،  وصفة التفضيل عند الله كذلك  هي  بالعمل الذي يقي الناس من العنف والشر والجريمة  ،   وفي ذلك  لا يكون  هناك متسعاً من القول  لكي نقول   : -  إن لقريش فضل  على عامة الناس وفي قيادتهم   -    ،   وكذا  لا يصح كذلك حصر الإمامة بعدد محدد من الخلفاء  ،   طالما إن الأمر يرتبط بالحياة وبالوظائف اليومية للناس وبالزمن الإفتراضي  لكل خليفة   .
    الرسول  أو  الإمام  :
     موضوعة  (  الرسول  أو الإمام )  ليست  موضوعة ثنائية  التشكل والمعنى  بل هي  أحادية  الصفة والمضمون  ،   فالإمام  في الكتاب المجيد  هو رسول  والعكس صحيح   (  وفي هذا الشأن يجب التركيز على مقولات الكتاب المجيد  ،  وليس على  ما تقوله  الأخبار والروايات  الموضوعة )   ،  وهذا يعني  إن للإمام   من المهام والواجبات  ما  للرسول  ، وله نفس االسلطة والقابلية في  إجراء القوانين وتنفيذها   والحكم   والقضاء  بين الناس  ، إنهما  إذن  يعبران عن  وحدة حال  ،  وإلى هذا أشار النص التالي  في قوله تعالى : - [  ....  إني جاعلك للناس إماماً ،  قال :  ومن ذريتي  ؟  قال :  لا ينال عهدي الظالمين ] -  البقرة 124  ،   وفي بيان  معنى  هذا النص   ،   نقول  :  إن  مفهوم  جعل   أي صار  في  لغة العرب  وهو   من  الصيرورة  ،  أي الإنتقال  من حال  إلى حال  أخرى   ،  ونفس المعنى نجده   في الكلامي  وفي الفلسفة  أيضاً   ،  هو تطور ذاتي وموضوعي  يطرأ على الشيء  لغاية ما   .
      والفعل  ورد  هنا  في  صيغة  ما   يحدث لا حقاً  ،  كالذي حصل لإبراهيم  من تطور  (  صيرورة )   فبعد أن  كان   نبياً  صار إماماً ،    هو إذن  تطور في المهام  وليس في المقام   ،  وقد  عبر الملا صدرا عن ذلك  بحركة النقلة   ،   وهذا  ما عناه  النص أيضاً   في قضية  الواجبات والمهام التي سيضطلع بها إبراهيم الإمام  (  الرسول )  وليس  إبراهيم   النبي   .
     وكما قلنا  غير مرة  (  إن الإمامة  هي  ليست النبوة  )  تختلف  عنها  من وجه  ولا تفترق عنها   من  وجه  أخر ،  ففي   :
    الأول   قال   :   إني  -   جاعلك .. إماماً -   بصيغة المفعول الثاني  ،    ولفظ   -  جاعلك   -   يقوم  بمقام  الفعل  في نصب  المفعول  ،  ولا تصح  إليه  الإضافة ،   هذا  إذا كان بمعنى الحاضر  أو المستقبل   ،  وأما إذا كان بمعنى الماضي فلا يقوم  بمقام  الفعل .
    والثاني   قولهم   :   أن  أسم الفاعل   حين  يكون مضافا  يكون ماضياً كدليل على الإقرار   ،  وهذا  لا يكون  عند الكسائي    ،  فهو إن كان مضافاً   يحتمل الحال والإستقبال   ،   وعليه  يكون معنى النص  :  (  إن الله  قد جعل إبراهيم  إماماً  أما في الحاضر  أو في المستقبل   )   .
      وكا قلنا  إن : -  (  الإمامة شيء والنبوة شيء أخر )  -  ،  وإلى هذا ذهب  صاحب الميزان  حيث قال :  -  إن إمامة إبراهيم غير نبوته  -  الميزان ج1 ص 271  ،  والإمام  هو ما يُقتدى به ويُتبع  في أفعاله وأقواله  ،  كتدبير أمور  الناس وإجراء سياساتهم   وتطبيق  القوانين والأحكام  بينهم   ،  ولا تدل عبارة   -  إني جاعلك  -  على  معنى  (  إن  يكون  الإمام منصوباً من قبل الله )   ،  ولكنها   تشير  فقط  إلى تطور وإنتقال  في حياة  إبراهيم  من كونه  نبياً  يوحى إليه  إلى كونه رسولاً  يقود الناس ويطبق القانون   ،  إذن  هي  ترتبط  بقضية الفعل والمهام  التي سيقوم بها  إبراهيم بإعتباره إماماً       .
      وأما التوكيد في القول إنه   :   -  (  لا ينال عهدي الظالمين )  -  ،    أي عهد  الإمامة  لا يناله  الظالمين  ،  ولفظ   -  الظالمين -  بصيغة  الجمع  مع  ال التعريف  مشعرة بالتخصيص    ،  والمُراد  منها   (  جماعة  خاصة  بعينها  )  من ذرية إبراهيم   ،  ولا يصدق معناها على  كل من صدر  منه أو عنه ظلم  أو  شرك أو معصية  في حياته   ،  ولو  كان في برهة من عمره  ثم تاب وأصلح  !!  ،  ذلك إن الظلم ليست من الصفات  الثابتة التي لا تزول بزوال السبب   ،  ثم إن ترتيب  الظلم والحكم عليه  بأثر رجعي ممنوع عند الله  إذ  (  لا تزروا وازرة وزر  أخرى  )   ،  هذا  من جهة الطبيعة  وما يكون عليه الإنسان بالفعل  ،  وقد ورد في الأثر  التأكيد  على  :  -  إن الإسلام يجُب ما قبله  -  أي يمحو ما قبله  ،  وبهذه الحيثية دخل الناس في الإسلام وقُبل منهم     .
      أما لماذا لا ينال عهد  الإمامة   من ذرية  إبراهيم  ؟     ،   فالقيد  كما قلنا  يشير إلى البعض  منهم   ،  والمتعلق  في المنع  هو  الظلم   ،  الصفة  والفاعل  إذ   لا يستقيم أمره    ومهام  الإمامة   ،   التي يتطلب فيها العدل   كونها أمر ونهي وتنفيذ  دقيق للأحكام  ،  والشرط  الموضوعي المقترح  هذا يُلزم   من يتصدى  من ذرية إبراهيم  لهذا العهد  ،   وبأن لا يكون  ظالماً  أو  من الظالمين  في الحال وليس في الماضي   .
      والظلم  صفة نفسية نسبية   تكون   ضد العدل  في مطلق  الزمان والمكان     ،   وفي الكتاب المجيد  نرى  التقابل  بين  الظلم  والإحسان  كما  في  قوله  تعالى  : - [  ..  ومن ذريتهما  محسن وظالم لنفسه مبين ]  -  الصافات 113  ،  والإحسان كما  الظلم  من الصفات النسبية المتغيرة   ،   والمعيار في  التعريف   بالظلم  أو الإحسان  هو في الطبيعة  و الكيفية التي يتم الإعتماد عليها   فيما ينفع الناس ويحقق  مصالحهم      .
    والظلم  والإحسان  والعدل  وغيرهما  هي من  الصفات  الغير  تخيُليه   ،  ولا يصح  التوصيف  بها   أو الكلام عنها  على نحو مطلق  من غير  دليل  ،  وكذا لا يجوز  إعتبار لفظ  - عهدي -   منه تعالى  ذو دلالة مطلقة  بحيث  يشمل كل عهد  ،   حتى في قوله هذا   : (   ولقد عهدنا إلى آدم من قبل .. ) -  طه 115 ،  فالعهد  ليس مطلقاً   ومعناه هنا  لا يشمل كل عهد   ،   وهكذا قال في  قصة يونس   : - [  سبحانك إني كنت من الظالمين ] -  الأنبياء  87   ،   ولا يُقال  عن  الظلم هنا  إنه  محمول على ترك الأولى   ،   بل  يُقال  عنه  إنه  متعلق  بما يقوم به  الإنسان تجاه نفسه   (  ظلم النفس  )   ،   كما جاء في قول آدم  : - [  ربنا ظلمنا أنفسنا ] -  الأعراف 23  ،  وفعل آدم  و يونس  في الحقيقة  لا يدخل  في باب العهد  الذي نحن بصدده  ،  ولهذا لا يستوجب  المخالفة والعصيان  ،  وإنما  جاء التوصيف  من باب العتب  أو لنقل من باب تعظيم الشأن   .
         ....
    ولكن  هل العصمة  واجبة للإمام  أم العدالة   ؟
    وقبل  بيان  مفهوم  العصمة   ،  نقول :  إن الله  أستعرض  في الكتاب المجيد  الشروط الموضوعية الواجب تحققها  في الإمام أو الحاكم     ،  ولم   يذكر  العصمة ولم  يركز عليها  بقدر تركيزه  على المفاهيم الإعتبارية الأخرى من  العلم والقوة والكفاءة     ،  كما في قصة الملك طالوت  والنبي داوود  ،  فهو حين  جعل طالوت ملكاً  على  داوود  لم يقل إنه  أو لأنه معصوماً   ،  بل  شدد  على مقومات القيادة مع الحفاظ على النسبية في الأشياء التي تؤهل الفرد ليكون قائداً  ،  مع العلم إن الله قد جعل طالوت ملكاً  وجعل داوود جندياً في جيشه  ،  قال تعالى  : - [ .... إن الله  قد بعث  لكم طالوت ملكاً  .. ]  -  البقرة 247   ،  يعني جعله حاكماً  عليهم  بوجود النبي داوود  ،  وهذه  تحتاج  إلى تأمل    ،   لأن الله لا يركز في القائد  إلاَّ على الصفات التي تحقق  للناس العدالة والتساوي وتطبيق القانون    ،  فالحاكم  المطلوب  من قبل الله  هو الحاكم  العادل  الذي  يلزمه علم  وقوة  ولا تلزمه العصمة   ،  أي إن اللازم  توفره في الحاكم  هو القدرة على تنفيذ القانون وإجرائه  بشكل عادل  ،  وتوفير الأمن والإستقرار للمجتمع وحمايته من التعديات الخارجية  .
    وحين نقول هذا فإنما نعني الجانب القيمي  وفيما يحقق السعادة للمجتمع  ،  وكذلك  نقول  : -  ولا يشترط في الإمام أن يكون معصوماً  -   ،  ولكن ماهي  العصمة  ؟   :
    -   عُرفت  العصمة  بأنها  الحماية  أو الوقاية  ،   وأصلها من الفعل الثلاثي عصم      ،  وبقولنا  حماية   فهذا  يعني  بان  الفعل ذاتي   ،  وقد تقع أثاره في الخارج   ،  فهي حماية  ذاتية  تمنع صاحبها  من الوقوع في الخطأ  ،  وهذه الفكرة   تنقسم   بحسب موضوعها إلى نوعين :
    1 -    عصمة  تكوينية  :     ومعناها  إن يكون  الفرد  معصوماً  في النشأة والتكوين ،  أي إنه لا يرتكب الخطأ ولا يفعله   تكويناً   ،  وهذا المعنى  يجعل من المعصوم  غير مكلفاً  وهو أقرب إلى  النبات و الجماد   منه إلى  الإنسان   .
    2  -   عصمة تشريعية  :   ومعناها  إن يكون  الفرد  قد راقب نفسه ومنعها من الوقوع في الخطأ أو إرتكاب الخطأ  ،  وهذه  المراقبة  هي  فعل  أو قدرة  على المقاومة   يكون الإنسان فيها  مكلفاً  ومختاراً ،  أي إنه  من  ينتخب ماهو صالح وصحيح  له  ،   ويتجنب كل ماهو ضار وقبيح  ،  وهذا الفعل ينطلق من الفرد  قبل  التشريع  ،  ويأتي التشريع  كتعزيز وتثبيت  لذلك عبر الأوامر والنواهي  ،   وإلى ذلك أشار النص بقوله   : -  (   والذين  جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا  )  -  العنكبوت 69   ،   ويُفهم من هذا  إن التشريع  يُثبت  ويعزز  ويدفع بهذا التوجه ،  لدى من يجد في نفسه العزيمة والإصرار والرغبة   ،   وهذه الحالة تكون سابقة  للنبوة ومنها وعليها يتم الإصطفاء  .
    وهذا  المعنى مطلوب  على نحو الإستحباب في الإمام أو الحاكم  ،  لأن  من يكون كذلك  تكون العدالة لديه تحصيل حاصل  ،  ولكن هذا الشرط ليس لازماً   إنما هو شرط إقتضاء  ،  ففيه تتحقق المصلحة والغاية  من الحكم العادل   والحكومة العادلة   ،  ولذلك  تكون العدالة  هي الشرط الموضوعي الأكثر إنسجاماً مع الطبيعة البشرية في الحكم    .
    و أما القول  :  بأن  العصمة  هي ملكة  نورية  قدسية  ،  كما يذهب إلى ذلك  مُدعي العرفان والتصوف  ، فهو قول مجرد بل  محض خيال  ووهم  ،  لأن العصمة في هذا المعنى تجرد الشخص المعصوم من إنسانيته وتذهب به إلى جهة الملائكة  ،  وهذا ما لا يقره الحق ولا يسمح به  ،  فالذين   : - [  .. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ..  ] -  التحريم  6  ،  هذا الوصف لا ينسجم  ولا ينطبق  على الإنسان وماهيته  وجوهره  ،  الذي يتميز به  من عقل وقوة إدراك وتخيل وإختيار وإنتخاب للفعل والقرار .
    ونعول  للقول : -  إن الإمامة ليست رئاسة عامة  -   ،   بمعنى  إنها  ليست تفويضاً  من قبل الله ،  بل هي تفويضا من الشعب لمن يرتضونه  إماماً  عليهم   ، وليست التقوى شرطاً  في صحة الإمامة  ،  ذلك لأن  التقوى في الغالب  شيء أو ملكة  ذاتية  أو نفسانية يحصل عليها المرء من كثرة العمل  بالواجبات  والإحتياط  عن كل الشبهات  ،  وهي شرط مفاضلة عند الله  لا يعلمها إلاَّ هو  ،  ولايصح  الوصف  بها على نحو موضوعي خارجي ،   والدخول في جدلية التقوى لا يقودنا  إلاَّ  إلى الدور  الباطل   بين التقي والأتقى ،  كما  هو الحال  بين المفضول والأفضل    ،  وكلها صفات لا يمكن التحقق منها على وجه الدقة في الخارج .
    نعم  في الإمامة  يجب  التركيز على إنسانية الإمام   ،   وما  يحقق لنا شرط  محاسبته إن أخطأ  والنظر والتدقيق فيما يقوم به  ويحكم   ،   هذا  بلحاظ  كون  فعل الإمام  مرتبطاً بحياة الناس  وحاجاتهم   ،  و لا يصح الحكم عليهم من غير تشاور  معهم ،  فالشورى شرط لازم في صحة الإمامة   ،  والشورى :  -  هي إستنطاق عقول الأخرين فيما ينفعهم وفيما يضرهم  -   ،  قال تعالى :  -  [  وشاورهم في الأمر ] – آل عمران 159  ،  وقال تعالى  : -  [ ...وأمرهم شورى بينهم  ] -  الشورى 38  ..
    وللحديث بقية

    آية الله الشيخ إياد الركابي
    7 جمادي الثاني 1440
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media