كيف شخّصَ عبدالجبار الرفاعي... فهم جماعات الإسلام السياسي للدولةِ الحديثه ؟
    الخميس 14 مارس / أذار 2019 - 04:50
    أحمد الديباوي
    فهم جماعات الإسلام السياسي للدولةِ الحديثه ؟

     "تعلمتُ من تخصّصي في معارف الدين وعلم الكلام والفقه أنّ بنيةَ الدولةِ الحديثه لا يمكن أن تقوم إلّا على مفهوم المواطنه الذي يتساوى فيه الكلّ ، والذي يكون نصابُ الحقوق فيه الإنتماءَ لوطنٍ واحد " .

     هكذا يأتي ، باختصار غير مُخلٍّ ، مفهومُ الدولةِ الحديثه في فكر الكاتب والمفكّر العراقي عبدالجبار الرفاعي ، الذي إستطاع ، بمجهود فردي خالص ، إنجاز مشروع علمي وبحثي لا يتوقف عند حدود التأليف والترجمة والندوات ، بل إنّه تجاوز ذلك كلّه ، فجاء عمله الرائد الذي قام على جهدٍ شخصي كامل ، رغم قلة الإمكانيات الماديه والبشريه ، وهو مشروع مجلة " قضايا إسلاميه معاصره " الفصليه ، ومركز دراسات فلسفة الدين ، وهو المشروع الذي يُعدُّ منبراً لتحديث المعرفه الدينيه ، وإعادة قراءة التراث ، والإنفتاح على العصر. 

    الدوله الحديثه مفهوم ملتبِس لدى جماعات الإسلام السياسي :

    يناقش الرفاعي في فصل 2 من طبعه 2 لكتابه " الدين والإغتراب الميتافيزيقي " ، بيروت 2019 ، قضية الدوله الحديثه ، والبناء القانوني لها في سياق معطيات الواقع ، ونسيجِ شبكات المصالح المعقّد والمتحرّك ، في محاولةٍ منه لتفكيك البنى الملتبِسه التي يتمترس خلفها الإسلامويون ، من خلال تسويق المصطلحات ذات المعاني المتعدده والمتداخِله ، لذلك فإنّ الرفاعي ينطلق من نقطة تحديد المصطلحات ، وتسمية الأشياء بأسمائها ؛ وهذه النقطة إحدى المشكلات العميقه في التفكير الديني عند الإسلاميين في العصر الحديث .

    إذ إنّ مفهوم الدولةِ الحديثه ملتبِس لدى جماعات الإسلام السياسي ، فجميع المصطلحات التي صكّتها الجماعات الإسلاميه ، مراوغةً وهروباً من الإعتراف بالدولةِ الحديثه ، إنما هي مصطلحات " مُبهَمَه " ، لا تُعبّر بشكلٍ صريح عن الدولةِ الحديثه ، مع تطعيم ذلك " بشيء من التوابل الدينيه ، كإنتقاء بعض النصوص والفتاوى المُلتَقَطه من المدوّنةِ الفقهيه ، وشيء من تمثُّلات السلطه في السياقات الإسلاميه " عبر التاريخ .

    ومما هو معروف ، فقد جاء مصطلح الدولة المدنيّه كأهم المصطلحات التي روّجتها جماعات الإسلام السياسي ، بعد أن وجدت تلك الجماعات أنّ مكاسب الدولة الحديثه باتت أمراً لازماً في العالم العربي ، وعلى رأسها تداول السلطه ، والفصل بين السلطات الثلاث ، والتمثيل الشعبي في الإنتخابات المختلِفه ، بل باتت أمراً لازماً لها كي تنقضّ على السلطةِ عبر تلك الأدوات والآليّات السياسيه الحديثه ، فإتخذت من كلمة " المدنيه " وعاءً تصبّ فيه تهويماتها السياسيه ، التي تعتمد على أنّ الدوله ، بالأساس ، ظاهرةٌ إلهيةٌ وَحْيانيه ، أسّس بناءها النبيُّ ، عليه الصلاة والسلام ، ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين ، ثم من جاء بعدهم من خلفاء بني أميه وبني العباس ومن تلاهم ، مروراً بما ذكرته المدوّنات الفقهيه عبر التأريخ ، [ يمكن إضافة: ولاية الأمر بالنص الإلهي للأئمةِ الإئني عشر وإمتدادها لنوابهم في عصر الغيبةِ لدى الشيعه الإماميه م.ع ] وكل أولئك مما لا يتفق مع مفهوم الدولةِ الحديثه المبنيه على القانون والقيم المتناغمه معه ، والصرامةِ العادله في تطبيقه ، وهو ما يُشكّل أرضيةً صلبةً لبناء مؤسسات الدوله الحديثه .

    ما يعني أنّ نموذج الدولةِ الذي تنشده جماعات الإسلام السياسي والمُستَمدّ من بطون التأريخ إنّما هو خرافة ووهم ، فليس من المعقول أن تتوقف حركة التأريخ الإنساني ، وتطور الوعي عند شكل الحكم الذي إستمر لقرون بعد وفاة النبي ، عليه الصلاة والسلام ، ثم الإدعاء بعد ذلك بأنّ تجارب الحكم الإسلامي كانت تنشد الدوله الحديثه ، التي يخلطون بينها وبين مصطلح ( المدنيه ) دون أن يدركوا السياق التأريخي الذي وُجد فيه ذلك المصطلح ، ومتى وُصفت الدولة بالدولةِ الحديثه التي تقوم على القانون وكفالة الحريات العامه ، وتكافؤ الفرَص ، والمساواة التامه بين المواطنين بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو المعتقَد أو الطبقه ، ما يعني أنّ " المواطن " هو أساس الدولةِ الحديثه ، وليس " المسلم " ، فالدولة الحديثه - يقول الرفاعي - لا تُبنى على التراث والهويات العِرقيه ، وإنّما تُبنى على المواطنه التي يُحدد نصابَها الدستورُ ، فالإنسانُ الذي هو موضوع دولة المسلمين أمس هو الإنسان بوصفه مسلماً ، بالمعنى الكلامي والفقهي ، أما الإنسان الذي هو موضوع الدولةِ الحديثه فهو الإنسان بوصفه مواطناً في الفكر السياسي الحديث ، من هنا فإنّ عبدالجبار الرفاعي يلمس جذور المشكله ، فيقرّر إنّ " الدولة ظاهرةٌ بشريةٌ أنتجها الإنسانُ ولا علاقةَ لها بالوحي والأنبياء ، وكلُّ ما هو بشري في السياسة والحكم لا علاقةَ له بالوحي ، وهو ما لا يريده الكثيرون ممن يتداولون هذه التسميات من كتّاب الأدبيات الدينيه السياسيه ، كما تؤشّر إليه كلماتُهم ، وهذه مفارقةٌ يقع فيها بعضُ دعاة الدولةِ الدينيه ، ممن يختبئون خلف تسميات تحظى بقبول أكثر المواطنين ، بُغية تسويقها ، وفي محاولةٍ منهم للفرار من تركة النماذج الأولى للأسماء التي أفشلتها تجاربُ التطبيق اليوم ، مضافاً إلى البراءة من تشوّهات أمثلتها في التأريخ" . 

    بناءُ الدولةِ الحديثه :

    وأما عن الدين ومدى إرتباطه بأشكال الدوله ، فإنّ الدين وإن يكن عنصراً فاعلاً في تربية الإنسان ونشأته ، ومكوناً لذاته ، بيْد إنّه يتعذّر بناء دولة حديثة بالدين ؛ فالسلطة والدولة والمشروعية في الدولةِ الحديثه مصدرها الإنسان ، أما الدين بمعناه الكلامي والفقهي الذي ينص على التمييز والتقسيم ، مثل هذا المفهوم للدين يتعذّر معه إشتقاق المفهوم الحديث للمواطنه ، الذي يفرضه بناء " دولة حديثة " ، يقول الرفاعي .

    ثم هو يؤكد إنّنا نُفشِل توطين الدولة الحديثه في بلادنا ، لعجزنا عن إعادة بناء نظام القيم في ثقافتنا بما يتواءم ونظم الدولة الحديثه ، لتسيّد قيم البداوة والقبيلة والتدين الشكلي الذي هو على الضد من الدولة الحديثه .

    تجدر الإشارة إلى أنّ الدكتور الرفاعي نبّه إلى أنّ جماعات الإسلام السياسي تؤكد فكرة " مظلوميتها وإضطهادها والتعسف في معاملتها من كل الأنظمةِ السياسيه ، وتتخذ من ذلك ذريعةً لكل أشكال التمييز بين المواطنين ، والسطو على المال العام ، والإنتهاكات الواسعه لحق المواطنه " ، تمثيلاً لدور الضحيه ، وإختراق الوعي العاطفي الجمعي ، ومحاولة إكتساب أرضية داخل البُنى الفكريه والثقافيه والسياسيه التي لا تنتمي إليها ، في حين إنّها تلعب بعد ذلك دور الجلّاد إن هي إنتقلت إلى موقع السلطه ، فهي " تتعاطى مع الوطن بوصفه غنيمةً ، تجهز عليها وتفترسها ، عندما تمتلك السلطه السياسيه " .  

    أحمد الديباوي
     باحث مصري في الفكر الإسلامي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media