الأكوان الموازية 4 les univers parallèles
    الأحد 17 مارس / أذار 2019 - 22:16
    د. جواد بشارة
    الجزء الظاهر الماكروسكوبي من الواقع الذي نعيش فيه، هو عبارة عن مكان وزمن أو نسيج زمكاني، ومادة وطاقة ، وفق نسبية آينشتين الخاصة والعامة. أما الجزء الخفي للواقع المادي، فهو بعيد عن أنظارنا ويقبع في العالم المجهري أو مادون الذري الميكروسكوبي. وهناك مادة مضادة اختفت من كوننا المرئي بعد أن كانت موجودة بوفرة تعادل وجود المادة العادية تقريباً في بداية ولادة الكون بعد الانفجار العظيم مباشرة، وبالطبع هناك مادة سوداء أو مظلمة  وطاقة سوداء أو مظلمة أو معتمة، تشكلان الجزء الأكبر من مكونات الكون المرئي. 
    ومنذ بدايات القرن العشرين المنصرم، حاول العلماء أن يفسروا نظرياً سلوك المكونات الأصغر في الكون أي الجسيمات الأولية للمادة والضوء: إلكترونات، بروتونات، نيوترونات، فوتونات. ومن ثم برزت وجوه علمية في الوسط العلمي لعلماء جريئين ومجددين موهوبين من أمثال نيلز بور  و ورنر هاينبيرغ وإروين شرودينغر وغيرهم  الذين اكتشفوا نظرية ستزعزع أركان الفيزياء المعاصرة لغاية نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، ألا وهي نظرية الميكانيك الكمومي أو الكوانتوم ، وعندما لا نراقب أو نرصد أو نقيس هذا العالم الكمومي فإنه يكون على هيئة غمامة من الموجات في حالة فوضى وفوران واضطرابات، ولكن ما أن ننظر إليه لن نجد سوى جسيمات أولية عاقلة . وكانت النظرية الكوانتية أو الكمومية من الصعوبة بمكان، لا يفهمها حتى المختصون بها وعلماؤها المؤسسون لها، ولم يستوعبوا جوانبها كافة ولم يفهموا تماماً قوانينها  وطبيعتها وأسرارها وغموضها سوى قلة قليلة منهم رغم قيامهم بحساباتهم الرياضياتية انطلاقاً من مبادئها الأساسية والجوهرية، ومع ذلك فعي تعمل على أكمل وجه وبنيت عليها تطبيقات تكنولوجية هائلة وكثيرة. ومن ثم بدأ جيل جديد من العلماء فهم صيغها النظرية تدريجياً فهي تسمح للجسيمات الأولية ما تمنعه عنها باقي النظريات الفيزيائية والمغايرة للتجارب اليومية . فيمكن للجسيمات الأولية أن تتواجد في مختلف الحالات ومختلف الأماكن في آن واحد وتتنقل بسرعات مختلفة. لقد نجحت نظرية الكموم أو الكوانتوم وثبتت صحتها عبر مختلف التجارب والاختبارات ولمرات عديدة، وكانت النتائج مؤكدة ودقيقة جداً. ولم يتم اكتشاف أي تناقض بين التنبؤات  والحسابات الدقيقة . وما أن تمت صياغة النظرية حتى نشبت سجالات كثيرة بشأن طبيعة هذه النظرية ومعناها فــ  نيلز بور العالم الدنماركي الحائز على جائزة نوبل، يقول  باستحالة الفصل بين وجود الشيء " الجسيم" وعملية الرصد له ، إذ أن الجسيمات والذرات حساسة بمكان، تجعل أي قياس أو حساب أو رصد لهما يؤثر حتماً على النتائج. فالإلكترون غير المرصود ليس إلا إلكترون ممكن الوجود ومحتمل الوجود افتراضياً ، ولا ينطوي على أي وجود حقيقي مستقل ، كما هو حال الحجر، أو الشجرة ، أو القمر، على سبيل المثال وذلك رداً على آينشتين الذي علق أنه لايمكن أن يعتقد بأن القمر غير موجود لا لشيء إلا لأنه لايوجد أحد يرصده ويشاهده. فنيلز بور يصر على أن الإلكترون لا يغدو واقعياً وحقيقياً إلا إذا قام شخص ما برصده ومراقبته وحساب المعطيات المرتبط به كالموقع والسرعة . وقد وصف عدد من العلماء  هذه الحالة بأنها " إختزال لحزمة الموجات réduction du paquet d’ondes، فلا يمكن توقع حالات ممكنة يجدها المراقب أو الراصد في جسيم وحيد ، لأنها مسألة احتمالات ليس إلا . فالصدفة والعشوائية تسود في عالم اللامتناهي في الصغر. وبعد بور أكد كثير من الفيزيائيين بأننا لا نستطيع رؤية الحالات المتراكبة والتشابكية للميكانيك الكمومي أو الكوانتي، لأنها تنهار بمجرد أن نباشر برصدها أو قياسها . بيد أن حالة الإنهيار  لم تظهر في معادلات النظرية . وفي عام 1953 أكد عالم الرياضيات والفيزياء هيوغ إيفريت ، عندما كان شاباً، بأننا لا نلاحظ حالات التشابك والتراكب في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لأننا جزء منها . ففي عالم ورؤية هيوغ إيفريت، لم تحدث أية حالة انهيار، فالعالم يوجد في نفس الوقت وبالتزامن على عدة حالات وهيئات وينقسم أكثر فأكثر على نحو لانهائي كلما كان هناك خيارات متعددة ممكنة، ففي كل مرة نراقب فيها ونرصد نظام في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، في حالة تراكب وتشابك superposition، تتشكل فروع أخرى للعالم وتتجسد أو تتواجد فعلياً. فلكل حالة تفرع من العالم يخلق واقعاً آخر. فالعالم أو الوجود يغدو في حالة تعدد كوني multivers. أي أن الواقع يتكرر وينسخ نفسه في كل مرة يكون فيها هناك اختيار ما لشيء أو شخص ما وكل عالم أو واقع يستمر بالتوازي مع العالم الآخر المنشطر عنه. ولكن على مدى أربعة عقود كانت نظرية التعدد الكوني أو الأكوان المتعددة في سبات في صيغتها الغريبة الأطوار وغير القابلة للإدراك ولا التقبل من قبل الوسط العلمي . ولكن في سنوات التسعينات وما بعد العام 2000 بات لكل عالم  وكوسمولوجي صيغته الخاصة التي تخيلها من الكون المتعدد أو التعدد الكوني ، ونشب تنافس شرس بين أنصار نظرية التعدد الكوني والعوالم المتعددة أو الأكوان المتعددة لمعرفة ما إذا كانت النظرية تقترح تنبؤات جديدة يمكن التحقق منها والتأكد من صحتها مختبرياً وتجريبياً، أو إنها لا تعدو أكثر من تفسير جديد لنظرية قديمة يمكن تبنيها أو رفضها ، والحال أن نظرية تعدد العوالم باتت تحظى بشعبية وانتشرت في الوسط العلمي.
    في البدء كان هناك تشاحن وجدال حاد بين الفيزيائيين بهذا الصدد لكن الشرارة التي فجرت التناقض اشتعلت عندما أكد البعض على وجود عدد من الأكوان الأخرى خارج كوننا المرئي واعتبر ذلط حقيقة علمية لا تقبل الدحض. هنا تكرست نظرية الأكوان المتعددة كفرع علمي جاد ورصين في الفيزياء الكونية أو علم الكونيات الكوسمولوجيا. البعض اعتبر ذلك بحثاً جاداً والبعض الآخر اعتبر ذلك مجرد هلوسات وتخيلات غيبية ماورائية وتعرض الوسط الفيزيائي إلى الانشقاق فالأمر يمس أسس العلم والتقاليد الفيزيائية والفلكية السائدة ، وكذلك يمس  سمعة الجامعات ومراكز البحوث، وتوزيع المنح المالية للبحث العلمي، وتعيين الأساتذة الخ.. فما هو الواقع الحقيقي الذي ترسمه وتصفه الفيزياء، إذا كانت حقاً تتحدث وتصف واقعاً حقيقياً أم أن الفيزيائيين في طريقهم للخروج عن  الخطوط الحمر والحدود المسموح بها،  ويغرقون في حالة من الشطط وتعطيل العقل السليم . حذر زميل العالم لي سمولنLée Smolin  ، العالم كارلو روفيللي  Carlo Rovelli بأن الفيزياء النظرية تدور في حالة من الضغط العالي فكرياً فلم تهتم سوى بنفسها وتفقد ملكة العلاقة مع الواقع . في حين يعتقد العالم الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل  دافيد غروس David Gross بأن تعدد الأكوان فكرة خطرة تردع الطلاب عن دراسة الفيزياء فهي نظرية افتراضية تأملية على درجة عالية من الإيهام وغير قابلة للتدقيق والاختبار وغير مفهومة تماماً ، ولكن لا يتجرأ أحد على وضعها في مصاف النظريات الفاشلة ، وربما يجب البدء بهذه الخطوة لكي تتقدم الفيزياء فالفرضيات الغير قابلة للتمحيص والاختبار ، هل يمكن اعتبارها واقعية وممكنة؟ فلا توجد لدينا مؤشرات مباشرة ولا غير مباشرة يمكن للعلماء اللجوء إليها لعرض أفكارهم وتوقعاتهم في هذا المجال. أين تنتهي  الفيزياء وأين تبدأ الميتافيزيقيا؟ إن إثبات وجود أكوان موازية لا يشكل تحدياً تكنولوجياً فحسب، بل يمثل إستحالة في الوقت الحاضر فلا يمكننا رؤية أو رصد أي شيء يدل على وجود عوالم مجاورة أو متداخلة مع عالمنا  و لا حتى بأضخم التلسكوبات لأنها  غير مرئية . والحال أن منظري  نظرية تعدد الأكوان يراهنون على إمكانية الرصد غير المباشر من خلال التفاعل الممكن بين الأكوان والتشابك بينها ، كما يحدث على المستوى مادون الذري، وذلك على أمل العثور على تطابق بين نظريات  كونية تعددية تنطبق على كوننا المرئي . فبالرغم من الصيغة الميتافيزيقية الظاهرة على هذه النظرية لكنها ليست غيبية أو  ماورائية أو خرافية أو أخروية . بقي أن نعرف ما هو الزمن في الأكوان الأخرى؟ هل هو نفس الزمن في كوننا المرئي ، أم هل هناك زمن خاص بكل كون من الأكوان المتعددة؟ وهل هناك نفس الزمكان الذي حدثنا عنه آينشتين في كوننا المرئي يمكن أن يوجد في الأكوان الأخرى؟ لطالما كان السؤال عن طبيعة الزمن أحد أكثر الموضوعات جدلا، لكن فريقا بحثيا من مؤسسة موسكو للفيزياء والتكنولوجيا أقدم على خطوة جديدة، ففي دراسة حديثة أعلن الفريق عن تمكنه من عكس اتجاه الزمن في حاسوب كمومي أو كوانتي ، عن طريق ارجاع حالة الفوضى إلى الانتظام مرة أخرى داخل كوننا المرئي، فنحن فقط نرى الزمن و هو يتجه للأمام بشكل دائم، وبهذا الصدد قال كبير الباحثين الدكتور غوردي ليسوفيك، من مختبر فيزياء المعلومات الكمومية في العاصمة الروسية: "لقد أنشأنا حالة تتطور في اتجاه يتعارض مع اتجاه السهم الديناميكي الحراري للزمن". واستخدم فريق البحث حاسوبا كموميا بدائيا يحمل معلومات عن الجسيمات دون الذرية، على أمل أن تساعد النتائج المنشورة في مجلة "Scientific Reports"، في تحسين قوة المعالجة للحاسب الكمومي. يشبه الأمر بضرب مجموعة من كرات البلياردو الملونة والمرتبّة، بكرة بيضاء أخرى فتتفرق، وبضربة أخرى تتجمع ثانية لصنع مثلث منتظم من الكرات، أي أن حالة الفوضى تنعكس، وهو ما يعني أن الزمن ينعكس أيضا، ويأمل باحثو الدراسة، التي اشتملت على فريق روسي أميركي سويسري مشترك، أن تسهم تلك النتائج الجديدة في فهم طبيعة القانون الثاني للديناميكا الحرارية والحالات التي يمكن أن ينكسر فيها، وهو بدوره ما قد يصعد بنا خطوة ناحية فهمنا لطبيعة الزمن.

    يتبع

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media