شيء من اللغة.. الموازنة والمقارنة 1-2
    الأربعاء 17 أبريل / نيسان 2019 - 04:21
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    ذكرتني رسالة من الأستاذ الدكتور محمد نقي الموسوي عن أيهما أصوب: الموازنة بين أمرين أم المقارنة بينهما؟ بما سبق أن كتبته في ردّ على مؤاخذات الذي نقر مقدمتي لمجمل اللغة (إصدار الإلكسو 1985م) تأثرا بمقالي (تقاطعات علمية مع أصول مندائية، مجلة آفاق عربية، أكتوبر 1978م). إذ أعلن حربا ضروسا على المقدمة وكاتبها لمؤاخذات ردّها عليه باحثون أفاضل ورددتها عليه أيضا بعد أن وصل لي ما نشره، وكان من جملة مؤاخذاته إنكاره صحة قول (المقارنة بين..) وقال: (الصواب هو الموازنة بين..).
    أعود إلى رسالة الدكتور محمد نقي فأقول:
    الموازنة من الجذر (و. ز. ن) الدال على تعديل شيء أو تقدير ثِقَله. وزنتُ الشيءَ وَزْنًا وزِنَةً. وهذه أصلها وَزْنَةٌ. وقال اللغويون: إذا تحاذى شيئان قلت: هذا يوازن ذاك. ومن جميل قول العرب في الهجاء:
    مثلُ العصافير أحلاما ومقدرةً
    لو يُوزَنونَ بزِفّ الريشِ ما وَزنوا
    جهلا علينا وجُبنًا عن عدوّهمُ
    لبئستِ الَخَلّتانِ الجهلُ والجُبُنُ
    وزِفّ الريش: الصغير الذي تطيّره أدنى نسمة هواء.
    وانتقل إلى المعنويات فقيل: هو راجح الوزن: معتدله، بلا إفراط ولا تفريط. ومن هذا جاء معنى استغربه لغويون قدماء، وهو قول الخليل: الوزين: الحنظل يُعجن ويؤكل. وكلمة (يؤكل) جاءت في: مجمل اللغة. ولكنّ ابن منظور في لسان العرب اكتفى بالقول: يُعجن. وربما اكتفى بذلك لأنه استغرب أكل الحنظل المر بعد عجنه لشدة مرارته التي لا تُطاق. متناسيا أن العرب كانوا يتخذونه علاجا. وإلى ما قبل عشرات قليلة من السنين، كان داء السكّري يعالج بالحنظل، انطلاقا من مقولة طبية قديمة أن العلة تعالج بضدها. ويوسع الصحاري الأزدي في كتاب (الماء) استعمالاته الطبية لأربعة عشر مرضا. وإنما سمي وَزينًا لأنهم كانوا يعتقدون أنه يوازن حالة المريض.
    ومن الموازنة الميزان، وتدري أن له كفّتين، واحدة تصعد والأخرى تنزل. وفي الأزمنة الحديثة ظهرت موازين بلا كفتين ظاهرتين، وهي الموازين الالكترونية، التي يمكن التلاعب بها بسهولة.
    ومن لطيف استعماله في التنزيل العزيز، أنه لم يرد فيه تعادل الكفتين، بل تفاوتهما ارتفاعا وانخفاضا، فهذه تخف وتلك تثقل، واحدة شائلة، والأخرى نازلة. ومنه:
    (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ)(سورة الأعراف 8-9)
    ولم يذكر تعادل الكفتين صراحة حتى في أوامره للناس:
    (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)(سورة الرحمن 9).
    هذه الموازنة انتقلت إلى الآداب، فاستعملها الآمدي في كتابه (الموازنة بين الطائيين). وكما هو الحال في استعمال الموازين في الدنيا، كان ميزان الآمدي غير متعادل الكفتين، بل ثقلت إحداهما بفضائل البحتري، عن الأخرى التي لأبي تمام، وقد علل ذلك بقوله:
    (لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور النمري وأبي يعقوب الخريمي المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى. ولأن أبا تمام شديد التكلف صاحب صنعة ويستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه شعر الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه، وعلى أني لا أجد من أقرنه به لأنه ينحط عن درجة مسلم، لسلامة شعر مسلم وحسن سبكه وصحة معانيه).
    فاستعمال الموازنة بدل المقارنة لا يحقق الحياد، إذ لا بد أن تخف كفة ميزان، وأن تثقل الأخرى، أي إن الناقد الذي يدرك أن بحثه سينحاز إلى طرف عليه أن يستعمل لفظ الموازنة. وتلك أمانة علمية لا تدليس فيها على القارئ.
    ولكن هذا الانحياز ليس مقبولا في المقارنة لأنها تدل على التساوي والاقتران.
    وهو ما سنبحثه في الحلقة القادمة، إن شاء الله.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media