في صحبة ماني
    الأربعاء 24 أبريل / نيسان 2019 - 18:53
    بدور زكي محمد
    كاتبة وباحثة
    بعض الكتب كالأصدقاء؛ نحتاج أحياناً إلى وقفة جديدة معهم كلما صمت الزمن عن أخبارهم، أن نبادرهم بلمسة اهتمام ومودة، بسؤال عن تفاصيل حياتهم، أن لا نتركهم لتاريخ الصداقة وعناوينها. غير أن كتبنا لا شروط لها، تجالسنا متى شئنا، ترافقنا في كل ارتحالاتنا، ليس لها متطلبات غير ذاكرة صافية، فإن عدنا إليها بعد حين فأما أن نتوثق من يقين بلغناه معها، أو نلمح بارق شك فنعدل عن ولائنا لفكرة توهجت بين صفحاتها.
    وقد عدت منذ أيام لكتاب أثير عشت معه بداية ممتعة، لكني تهت بين فصوله في ممالك الإيمان وتنوع المؤمنين، بين نور الحالمين وظلام المستبدين، كتابي كان عن "حدائق النور"، لكاتبه أمين معلوف الذي تابع فيه سيرة الحكيم ماني، في رواية متخيلة، استلهم بعض أحداثها وشخوصها من التاريخ.
    يقول معلوف: " تبدأ قصة ماني في فجر العهد النصراني، بعد أقل من قرنين على موت المسيح. وعلى ضفاف دجلة ما يزال حشد من الآلهة يتباطأ. فبعضهم برزوا من الطوفان والكتب الأولى، والآخرون قدموا مع الفاتحين أو مع التجار. وقليل من المؤمنين في المدائن يحتفظون بصلواتهم لوثن أوحد، ويجرون من معبد إلى معبد لإقامة القداديس..." . ويضيف بأنه في ذلك الفضاء من القدسية المتخيلة، لمعت أسماء للآلهة؛ فعلى تلك الضفاف كانت الإلهة الكبرى" "نانايي" التي كان بوسع القادمين من بعيد أن يطلقوا عليها أسماء قدّيساتهم؛ فالأغريق يدعونها "أفروديت"، والفرس "أناهيتا"، والمصريون "إيزيس"، والرومان "فينوس"، والعرب "اللات"، وهي " لكل واحد منهم الأم المرضع، ولثديها السخي حرارة الأرض الحمراء التي يرويها النهر الخالد.".
    حياة ماني كانت مزيجاً من مرارة الصبر وحيرة الأنوار في ليل غائم، فقبل ميلاده كانت الوعود تزهر في قلب أمه مريم، وينتظره أباه باتيغ بنفس زاهية، وهو النبيل المترف ممن كانوا يعبدون إله المعرفة "نبو". ولكن ما أن قربت إطلالة ماني حتى صار القدر يخطو نحو الوالدين بحماقة وقسوة. ثمة شقاء أقبل عليهما بهيئة زعيم لطائفة تدّعي أن العالم يقترب من نهايته وأن إله السماء أوكل إليها وحدها حراسة إرث اليهودية والمسيحية. ويبدو ان ذلك الرجل التدمري الذي يُدعى "سيتابي" كان يصطاد الشباب ويغريهم بالإنضمام إلى عصبته، وقد نجح باستمالة الأمير البارتي باتيغ، فسار معه، ليس عن جهل وإنما لأن الشك كان يخامر عقله، ويبحث عن الحقيقة، ومن أجلها هجر زوجته التي كان يعشقها، إذ لا يجدر ب "حراس الدين" أن يضمّوا بين صفوفهم من في حياته امرأة حتى لو كانت أمه. كان عديدهم ستين رجلاً، يلوذون ببستان نخيل بعيد عن المدينة، 
      يأكلون مما يزرعون، نباتاً "مذكراً" لأن زرع غيرهم "مؤنث" دنِس كما يزعمون، يجاهدون رغباتهم حتى في الطعام، ملابسهم بيضاء ويحسبون أنفسهم متطهرين من كل ذنب، لكنهم لم يدركوا بأن الحرمان والقسوة على النفس، لا تبرأهم من الذنوب
    طال ليل مريم وهي تنتظر عودة زوجها، وصار حملها يثقل عليها ويجلب لها الكوابيس، وفي ليلة حلمت بأن طائراً بشعاً ينقض على وليدها ويخطفه من بين أحشائها، أفاقت مذعورةً لكن مربيتها هونت عليها. ومرت الأيام والشهور والزوج غائب مشغول بطقوس دينه الجديد، وما كانت لديه الجرأة أن يسأل؛ كيف يصبح المؤمنون بلا قلوب؟
    عادت البسمة إلى وجه مريم يوم وُلد ماني، وسلمت بأن القدر أراد لها أن تكون وحيدة، فمضت في حياتها، غير أن نذير الشؤم  "سيتابي" لم يرضَ لهذه المرأة أن تذوق السعادة، فهو يكره النساء، وهذا شأن كل الرجال المتعصبين الذين يعتقدون بأنهم خُلقوا على صورة الإله، ولأجل ذلك أرسل رجاله لينتزعوا الطفل من حضن أمه، فقادوه إلى بستان النخيل، غير مكترثين بدموعها ونحيبها، عازمين على حرمانها من وليدها مدى الحياة. وهكذا حكموا على ماني الصغير بأن يكون إبنا للجماعة، ولم يكن من حق أبيه أن يظهر أي عاطفة نحوه، حينذاك بدات سنوات العذاب.     

     قضى ماني طفولته الحزينة بين أصحاب الملابس البيضاء والقلوب الخاوية. وفي بستان النخيل داوم على خلوته في ركن ظليل على حافة ترعة، يتأمل ما مر به ويجمع أسئلة لا جواب عليها. وبعد أن جاوز عامه الثاني عشر، نضج خياله الفتي وصار أكثر وضوحاً، وعلى صفحة الماء تراءى له توأمه، وسمع صوتاً يحييه: "سلام عليك يا ماني يا ابن باتيغ، سلام مني ومِن مَن أرسلني"، حار الفتى فالسماء تحدثه وليس غيرها، أي بهجة تشرح القلب، فالبشير يباركه، مع أنه كان يشعر بالإثم لأن قلبه الصغير خفق لفتاة عرفها أثناء تجواله في المدينة لبيع الثمار. تساءل؛ أتكون خفقة عابرة سببا لرضا الإله؟ 

     كان ماني مرهف الحسّ، ميّال للرسم، يدواي به أحزانه، وفي يوم أظهرت ألوانه شكلاً تراءى له أنه يحيى المعمدان، لكن صديقه قال: لا، إنه الإله "ميترا"، فزع وصار يلعن كما علموه، لكن توأمه الرؤوف ناجاه: " أرسم ما حلا لك يا ماني، فالذي أرسلني لا منافس له، وكل جمال يعكس جماله هو". أجل حين نبتهل إلى الإله فلابد أن يكون جميلاً، وليس من عادته أن يكترث بمن لا يعرفونه، لان المعرفة كلها لديه. 
    يحيل معلوف توأم ماني إلى فكرة قد لا تعجب الكثيرين، فيكتب: "هكذا تولد المعتقدات كما يقول بعضهم: انزلاق الخيال  عند منعطف سن البلوغ؛ لقاء مع المرأة، المرأة المحرمة؛ وإذا الرغبة تطفح ". مشاعر ملتبسة كان على ماني أن يعالجها، فصار للخيال سطوة على روحه المعذبة، وماعاد يؤمن بمزاعم الجماعة  وتقرب أتباعها لله بالزهد، وما ادعوه من دنس الآخرين وطهرهم. لكنه لم يبح لأحد بما رأى أو تخيل سماعه من أصوات علوية تبشره بالخلاص، وادّخر قراره إلى أن يشتد عوده وتنضج عزيمته.
     
    وما أن جاوز العشرين عاماً خلف أسوار الجماعة، حتى عزم على الرحيل عنها، ولم يشأ أن يرحل بصمت، فتعمد إغاضة سيتابي وأتباعه. استبدل رداءه الأبيض، بملابس ملونة كانت محرمة لديهم، ثم خاطبهم متحدياً 
    "أني أحمل رسالة عليّ تبليغها الى العالم..."
    وسوف يقول لأصحابه فيما بعد، وهو يتذكر أعوامه في بستان النخيل
    لقد "سرت وسط هؤلاء الناس بحكمة وحيلة، محافظاً على الراحة، غير مقترف ظلماً، غير منزل أي نوع من العذاب، غير متبع شريعتهم..."."

    رحلة ماني كرسول وحكيم، كانت مضنيةً، مشحونة بشهود لم يسع إليهم، ملوك وأباطرة، أمراء وكهّان، عرف الطيبين، والأشرار، " ولقد سُمعت صيحته خلال ألف عام، ففي مصر كان يُدعى "حواري يسوع"، وفي الصين كان يُطلق عليه "بوذا النور"، وكان أمله يزهر في ثلاثة محيطات... ذلك كان قبل أن يحلّ الحقد ويحتدم الهجوم على معتقده..." (معلوف). 

      كان نحيلاً يحنف في مشيته، لا تبدو على وجهه إمارات اليقين، بسيطاً يفترش الأرض في ظل شجرة، لكن عزيمته الباهرة حملته فوق كل الصعاب، وأذهلت أعداءه حتى أباطرة الفرس، وفيما بعد تضافرت السلطة الدينية  في روما وفارس، على تشويه صورته ومحو ذكره. 
    يتساءل معلوف: في أي الأمور كان خطِرا بحيث وجبت مطاردته حتى في ذاكرتنا؟ 
    ربما يكمن الخطر- كما يشير معلوف - في أن ماني لم يكن يعتقد بالأعراق والطبقات، ففي ظل امبراطورية الساسانيين التي عاش ماني في عهدها ( فترة أردشير وولديه هرمز وبهرام)، لم تكن فكرة المساواة مقبولة، فالإمبراطور شخص إلهي متميز العِرق، وهناك الكهنة المحيطين به، وهم طبقة عليا في .
    في الجتمع. ومع أن ماني لم يدعُ أحداً إلى التمرد على الحكام، لكن رؤيته الصافية والبسيطة كان من شأنها أن توقظ في الناس شعوراً بأن الحقيقة تكمن فيهم وليس في معابد الكهّان، وأن عليهم أن يكتشفوها بأنفسهم، كان يقول لهم: " في كل كائن وفي كل شيء على السواء تتعايش "الظلمات" و"النور" وتتشابك. وقلب الثمرة التي تخضمونها يغذي جسدكم، بيد أن مذاقها الطيب وعطرها ولونها يغذي أنفسكم. والنور الكائن فيكم يتغذى بالجمال والمعرفة ففكروا بتغذيته من غير انقطاع، ولا تكتفوا بإتخام الجسد. وحواسّكم منذورة لتلقف الجمال ولمسه. أجل أيها الإخوة، أن حواسّكم الخمس مصافي نور. فقدموا لها العطور والأنغام والألوان، وجنبوها النتن والصرخات الجشّاء والقذارة. "
    والنور الذي استضاء به ماني كان يهديه إلى علاقة سامية مع كل أديان عصره، فهو القائل: " أنتمي إلى جميع الأديان، ولا أنتمي لأي منها" ويشرح ذلك للناس أنه قد فُرض عليهم أن ينتسبوا إلى عقيدة، كما ينتسبون إلى عِرق أو قبيلة، لكنه يبصرهم بالأفضل ويقول لهم: " أنهم كذبوا عليكم. أعرفوا أن تجدوا في كل عقيدة، في كل فكرة، الفكرة المنيرة، وأزيحوا القشور" ثم  يضيف : "ومن يتبّع سبيلي يستطيع أن يبتهل إلى (أهورا مازدا)(إله الخير عند الزرادشتيين)، وإلى ميترا (إله قديم)، وإلى المسيح وبوذا. وسوف يأتي كل إنسان إلى المعابد التي سأشيدها" .
    وكما انشغل العلم الحديث بتفسير بدايات عالمنا الأوسع، فإن ماني آمن بأن الكون عرف صدمة عنيفة، شديدة الهول، "عند حدود عالمين كانا منفصلين؛ عالم النور، وعالم الظلام، وبفعل تلك الصدمة اختلطت جزيئات النور بالظلمات، وهكذا ظهرت جميع المخلوقات، الأجرام السماوية والمياه والطبيعة والإنسان..." (معلوف). 
    وقد امتلأ ماني بفكرة النور، وسعى لتحقيق الإنسجام بين الناس وما يعتقدون به من كيانات قدسية، على تعدد مصادرها في زمانه. ولفرط ما عانى من اضطهاد ديني في صباه وشبابه، صار في حيرة من أمواج العقائد المتلاطمة، فألقى سؤالاً كان له فعل البرق في ليلة ظلماء، قال: " أتساءل أحياناً عما إذا لم يكن سيد الظلمات هو الذي يوحي بالأديان، لا لشيء إلا لتشويه صورة الإله" (معلوف). سؤال ألقي بثقله منذ قرون وحتى الآن، ولم يستطع حماة الأديان الإجابة عليه، لأن كلهم يدّعون امتلاكهم للحقائق الكلية.

    في الختام أتساءل أنا أيضاً؛ ما الذي دعاني لاستدعاء ماني؟ لعل الجواب يكمن في حاجتنا لحكمته، لفكرته العابرة لكل الأديان، لحدائقه المنيرة التي لا تطرد احداً، وتقاوم عالم الظلام الذي تسلل إليها. أوليس ما نشهده اليوم من وقائع دامية هي من فعل رسل الظلام، الذين يطلّون برؤوسهم من أعماق كتب مهترئة، ليلقوا علينا غبارها؟
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media