شيء من اللغة.. العقلانية والنقلانية
    الخميس 25 أبريل / نيسان 2019 - 21:05
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    لا أدري هل كان عن جهل من التراجمة أم عن سبق إصرار وتَقَصّد استعمالهم مصطلحات عربية لما لا تنطبق عليه حتى في اللغات الأخرى؟
    وعلى سبيل المثال، لقد ظهر في ألمانيا في القرن التاسع عشر مذهب اصطلح عليه الألمان بـ(Rationalität) ثم استقبلته الإنكليزية بمصطلح (Rationality) والفرنسية بمصطلح (Rational) وهذه المصطلحات لا علاقة لها بتسمية العقل في تلك اللغات نفسها. ورواده مختلفون في تحديده، ومنهم من دعا إلى إلغاء دور الملاحظة والتجربة والإدراك الحسي في تكوين المعرفة، ولكنهم يجمعون على إلغاء الوحي. أما ميدان عمله فالانضباط الشخصي وإدارة الوقت وإقامة أنظمة حكم حديثة. واكتفى هانز رايشتنباخ بإلحاق التيار بنظرية الإدراك. ومجمل ما هو معروف عن هذا التيار أنه جزء من نظرية الإدراك التي تُرجمت خطأ بنظرية المعرفة في مقابل الـ(Epistemology). فأين هي العلاقة مع العقل بمفهومه في الثقافة العربية، كي يوصف ذلك التيار بـالتيار العقلاني؟
    وهذه ليست المرة الوحيدة التي يفعلون فيها ذلك، فقد ترجموا المصطلح الفرنسي (Laïcité) الدال على اللادينية ومثله في الإنكليزية (Secularism) بالعلمانية لإيهام الناس أن هذا هو طريق العلم، وهم يعرفون أن ذلك المصطلح لا علاقة له بكلمة العلم حتى في تلك الثقافات، على ما أوضحناه في حلقات سابقة.
    ونظرا لأن المصطلح جاء إلى ثقافتنا من خارجها، فلا بد أن ينتشر انتشارا واسعا، فتلقفته وسائل الإعلام والثقافة والبحوث والرسائل الجامعية، وكأن ثمة حربا عالمية بين تيارين: العقلانية والنقلانية. ولا تتعجب من مصطلح النقلانية، فكما سمعنا بالعقلانيين سنسمع بالنقلانيين.
    وحظي مصطلح العقلانية بترحيب النحويين واللغويين فجعلوه مصدرا صناعيا. ولَمّا كنا قد رفضنا اصطلاح المصدر الصناعي. فقد حاولت أن أجد له تخريجا عن طريق النسبة، فوجدته بعيدا عنها، لأنه سيكون نسبة إلى مثنى، فمثنى العقل (عقلان) فحين تقول عقلاني، فكأنك نسبته إلى مثنى. وهذا لا يمكن قبوله. فالنسبة إلى العقل عقلي ومعقول.
    ولنرجع إلى دلالات لفظة العقل في اللغة العربية لنتبين عدم التلاؤم بينه وبين هذا التيار.
    العقل هو الشدّ والربط. و(اعقلها وتوكل) أي شدّ رجلي الدابة لئلا تهرب منك، ثم توكل على ربك. والعقيلة التي عُقلت أي رُبطت. أُطلقت أولا على الدواب. وعلى الزوج مرتبطة بزوجها، كما في قولهم: جاء مع عقيلته. ثم توسعوا فيها فأطلقوها على المرأة السامية الأخلاق الحميدة الصفات، وجمعها: عقائل.
    وقالوا: عقَل فلان الأمر: علمه بعد أن كان جاهلا به. ولكن هذا التفسير ليس دقيقا. فعقل الرجلِ الأمرً: فهمه، لا علمه، فربما كان قد علم به من قبل ولكن لم يعقله، أي لم يفهمه. ورجل عَقول إذا كان حسن الفهم للأمور. ومثله رجل عقيل. وكأنه قد حدد سلوكه بتأنّ ومراقبة وحكمة. وأمر معقول أي يمكن تصوره بالعقل. ومنه قول الشاعر:
    فقد أفادت لهم عقلا وموعظةً
    لمن يكون له إربٌ ومعقولُ
    وأيا كان الأمر فإن العقل يتجلى بسلوك محدد على وفق معايير متفق عليها اجتماعيا وإنسانيا، وقد نص التنزيل العزيز على وجوه ذلك السلوك وصفاته.
    وقد سمعت من وصف رجلا بأنه يَتَعَيْقَل، (على زنة/ يَ، تَ، فَ، يْ، عَ، ل) مثل يتفيقه لمن ادّعى الفقاهة وليس بفقيه. وخُففت حركاتها في بعض اللهجات. وأراها متطورة من قول العرب: فلان يتعاقَل وهو متعاقل: أي يُظهر أنه عاقلٌ فَهِيمٌ بعكس حقيقته. ولك أن تقول لمن تراه كذلك: لا تتعاقل علينا.
    فالتيار العقلي يضم كل من يحسن استعمال عقله.
    والتعاقلية مذهب من لا يحسنون ذلك. وهم المتعاقلون، كأنهم (المتقاعدون) من العقل.
    وليس بين العقل والنقل عداء إذا أحسنّا فهمهما. فالنقل يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى النقل، سواء كان النقل من التراث أم من الثقافات الأخرى. ولا قطيعة مع التاريخ.
    وقاكم الله وإيانا شر المتعاقلين المتعيقلين والمتفيقهين المتفيهقين الوارد ذكرهم في الحديث الشريف.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media