مهرجان مسرح الساحة في دورته السنوية الـ 49.. مخاطبة الضمير والحواس والشعور والموقف
    الأثنين 26 أغسطس / آب 2019 - 04:44
    موسى الخميسي
    يمكن القول ان علاقة الشارع الايطالي بالفن، هي علاقة وطيدة ومستمرة، فالكثير من الفنانين الشبان يتخذون من الارصفة والشوارع معارض مفتوحة لاعمالهم الفنية، سواء تلك التي اتخذت وسيلة من قبل بعضهم لـ" لقمة العيش"، او تلك التي يكمن وراءها الدافع الفني المحض، وبطبيعة الحال، فان علاقة الايطاليين بالفنون، هي علاقة قديمة، متجددة، ولا يقتصر الامر على الفنون التشكيلية التي تشهد حالة ازدهار، بل يتعداها الى سائر مفردات التعبير الفني، ولعل ابرز ما في هذه الفنون هو طابع الاحتفال الذي يرافقها.

    لقد ارتقى المشاهد الايطالي الى مواقع جديدة اصبح يمتلك حضوره كعنصر فاعل، وكهدف رئيسي لكل النشاطات الفنية مما جعل محافظة كل مدينة من المدن الايطالية مطالبة بتقديم العروض الفنية بشكل متواصل، لدرجة اصبح الامر في صورة تنافس لتقديم كل ما هو جديد مادام هذا الجديد يشكل محركا اساسيا لتطوير الانسان والمجتمع، ويساهم في العملية المعرفية لخلق التغييرات العميقة في الحياة اليومية المرتبطة والمكتملة بالمتعة الجمالية. 
    وفي مدينة سانتاركانجلو الشمالية والتي تطل على البحر الادرياتيكي يقام هذه الايام مهرجان يدعى " مسرح الساحة" في كل عام، وهو، حسب المشرفين، يعود الى مئات السنين. الا ان هذه الفعالية السنوية التي تحتفل بدورتها الـ 49 الجديدة، تعرضت الى متغيرات كثيرة، اصبحت بعدها على صورة مهرجان سنوي يمتد عشرة ايام تشرف على تنظيمه محافظة المدينة وبلديتها، وعدد من المنظمات والمؤسسات الرسمية والشعبية.

    ان مهرجان "مسرح الساحة" هو حج سنوي لعشرات الفرق المسرحية الشابة التي تحضر من جميع انحاء العالم، متعددة التيارات الفكرية والثقافية والتي استطاعت ان تحقق انجازات مهمة وكبيرة في مجال المسرح الاوربي الجديد، لما وجدته من درجات عالية من النضج والحيوية. من الجنوب الايطالي ومن الشمال ومن اوربا وبعض الدول الاسيوية والافريقية، ينصبون خيامهم في ساحات المدينة التاريخية التي تعود الى بدايات العصر الروماني، وعلى مدى الايام المحددة للمهرجان، يقيمون حفلاتهم الموسيقية الراقصة، ويعرضون بضاعاتهم اليدوية ليغطوا بمبيعاتهم نفقات سفرهم واقامتهم، يتحاورون ويقيمون الندوات، ويتحدث الكثير منهم عن تجربته المسرحية وتجربة بلاده ، والموضوعات المسرحية المستقاة من الحياة اليومية للناس ، وحجم تأثيرها على الجمهور بسبب الإحتكاك المباشر معهم .

    تقول الناقدة المسرحية ايفا نيكليافا من جمهورية روسيا البيضاء، المشرفة العام على المهرجان  لـ" الشرق الاوسط" بان مجمل التجارب الحالية والشابة في المسرح الاوربي بـ"الحساسيات الجــــــديدة"، وهـــــو نوع من الإقرار بكونها في غالبيتــــها تعكس اقتدار في  رســم معالم أفق مشــترك يجعلها ترقى إلى مستوى الموجات المسرحية الجديدة أو التيارات التي تغزو خشبات المسرح العالمي . وهو الامر الذي يجعل النقاد يحصرون هذه المجهودات الفردية المشتتة هنا وهناك في كونها حساسيات جديدة ، تمتلك آفاق واضحة للاشتغال في كل تجربة من تجاربهم بمشروع جمالي واضح وتنطلق من وعي نقدي وتنظيري"، وتضيف المشرف العام" يبدو واضحا  من معطيات المختبر التجريبي لكل تجربة مما ،إن سمات الإبداع المسرحي اليوم، أيا كانت البقعة التي تنتمي لها في العالم، لا يمكن أن يكون بمعزل عن معطيات ما بعد الحداثة، التي غدت تحكم العالم والعلاقات الفردية والجماعية . الناس تشاهد التلفزيون، وتسمع للمذياع في الآن ذاته،  تبحر في عوالم الإنترنت على حواسيبها أو هواتفها الذكية، منخرطة في مونولوجات نرجسية طويلة، قد تخالها منصات للتناظر أو فضاءات تفاعلية. حتى طريقة تلقي الفنون الحية والسمعية البصرية اختلفت، وصارت لغة الإنترنت وسوقها وإيقاعها تحكم كيفية التلقي هذه. هكذا صرنا نشاهد الموسيقى والغناء على شكل فيديو كليب قبل أن نسمعها كأغاني ومعزوفات، ونتلقى السينما أمام الحاسوب قبل أن نختبر هل لدينا الرغبة والاستعداد، لتلقيها داخل طقس الفعل الجماعي ، الذي تشكله قاعة السينما او خشبة المسرح . هذه الوصفات الفنية الجديدة قوّت فردانيتنا وانعزالنا بشكل غريب، غذاة انغماسنا في عوالم افتراضية نشكل فيها بدورنا جماعات ومجموعات افتراضية؛ حتى غدونا نخال أننا لسنا في حاجة إلى التلقي الجماعي، وما يمثله من ذريعة جميلة للقاءات الجماعية، وتقاسم لحظة التلقي ونقاشات ما بعد التلقي، أو ردود الفعل المختلفة خلال التلقي نفسه. تجربة كرنفال هذا المهرجان الذي تتسع المشاركة فيه عاما لعد عام ،يشكل لقاء حقيقي مع إنسانية هذا الإنسان، وهو ما ترسمه الامال بـ"العودة إلى العروض الحية" وهذه العودة لا تكون إلا ضمن نسق عام يأخد بعين الاعتبار، أساليب التلقي الجديدة (المابعد حداثية) ويقترح مواعيد تعلن عن نفسها داخل ما يمكن تسميته بـ "الهندسة السردية" لهذه الأساليب، بحيث تصير حلقة تستحق الدراسة. ذلك أن العرض المسرحي اليوم عليه أن يبحث عن جمهوره داخل العوالم الافتراضية، التي يسبح فيها (شبكات التواصل الاجتماعي – القنوات الإلكترونية) ويقنعه إلى التوجه نحوه للتمتع بلحظات انزياح وتفكير بأبعاد جمالية وحسية يشارك فيها ولا يكون مجرد متلق سلبي".

    القوالب المسرحية الجديدة تحمل المفاجأة ، وهي حصيلة جهود بشرية في أزمان وأماكن مختلفة، واستخدامها خارج البناءات التقلية للمسارح، لا يضير المسرح الكلاسيكي المتعارف علية وتحتضنه قاعات المسرة وخشبته العتيدة . فالمسرح الذي نشاهده في ساحات وشوارع المدن، هو الشكل الاخر الحديث تماما، يمكننا وصفه بالمسرح الاكثر حيوية وليس بالمثالي. فإذا كان الجمهور ينتظر مسرحا جديدا،خارج المباني والكراسي والشينوغرافيا، فانه في مسرح الساحة سيكون بالضرورة داخل إطارالافكار. 
    المسرحيون هنا،يجمعون على انهم يقفون بمواجهة، ما يطلقون عليه بالمسرح المحافظ الذي اصبح حبيس  لمفاهيم مسرحية غدت قديمة وكلاسيكية ومستهلكة في سيرورة التطور العالمي للمسرح الذي شهد غداة ظهور الإنترنت تجاربا للمسرح ما بعد الدرامي والمسرح ما بعد الحداثي. من جهة أخرى تم تضييع الكثير من الوقت في محاولة تأسيس مسرح جديد الشكل من خلال الاعتماد على أشكال ما قبل مسرحية، هي ظواهر وطقوس غير مسرحية أو على نصوص وأجناس أدبية لها القابلية لأن تكون من خلال مواضيعها وشخوصها وعوالمها مادة خاما لمسرح ينهل من التراث، لكن لا يكفي حشد هذه العناصر من التراث داخل عمل مسرحي ليكون ذا قيمة فنية.
    إن القالب المسرحي المتداول والذي يطلق على نفسه بـ" الحديث" ، يدور حول الأسئلة الصغيرة والكبيرة في حياة الناس. الجميع هنا في ايطاليا يبحث عن الجوانب الانسانية في حياتنا  وهو حصيلة جهود البشرية في أزمان وأماكن مختلفة، واستخدامه يعكس طموح اصحاب الفرق المشاركة في  خلق مسرح نابض بالحياة، وتحقيق مبدأ ديمقراطية المسرح الحقيقي التي  تعتمد على المحادثة والمناقشة و هنا يعيش المشاهد المتلقي الاحداث دمآ ولحمآ بدون كاميرا وفلتر وطبع وتحميض ومونتاج، ولا يضير استخدام كل الوسائل التقنية الحديثة او تلك الوسائل التقليدية إذا أحسنت الفرق المسرحية الشابة  استخدامه وعرفت كيف تسيطر على هذه الاساليب والقوالب المسرحية ليجعلوه وسيلة لعرض هموم الإنسان وتطلعاته.  يظل الهدف كما تقول الفنانة المسرحية الايطالية ليزا جيرالدينو ، مساعدة المشرفة للمهرجان ،"هو إيجاد طريقة المسرح التفاعلي أي إشراك الجمهور في العرض،  ولعل التجارب الشبابية في الاعوام السابقة، نجحت الى حد كبير في استقراء تراثها والنهل منه في تشكيل مادة مسرحية، وهي تجارب استطاعت عن حق تطويع القالب المسرحي ، وتمكنت من استخدام تقنيات  مسرحية جديدة، بدون تضييع الوقت في التنظير لهوية هذه المسرحية او تلك" .

    العروض الرسمية المشاركة تحصل على دعم بلدية المدينة والمؤسسات الرسمية والاهلية، التي تقوم بتهيئة القواعد الخشبية( خشبة المسرح) في ساحات المدينة الرئيسية، اضافة ومستلزمات الاضاءة والصوت. وهذه الفرق تعّد بنفسها ما ترتأيه من ديكورات، كما تلزم الفرق المشاركة بتقديم طلبات المشاركة قبل ثلاثة اشهر من بداية المهرجان السنوي لتثبيت اسمها في برنامج العروض، وتهيئة المستلزمات الضرورية الاخرى كتحديد اسم الساحة ومكانها في خريطة المدينة، وايضا اوقات العرض، اضافة الى اللقاءات الصحفية والتلفزيونية واعداد المطبوعات وتنظيم المواعيد، إضافة الى منح اعضاء الفرق المساهمة بطاقات دعم وتسهيل حجز مخيمات المنام وتسهيل المواصلات وتسهيل ودعم طبع الاعلانات والنشرات، والحصول على دعم خاص لوجبات الطعام في المطاعم الشعبية التي تظل مفتوحة الى ساعات متاخرة من الليل. يلاحظ بان عدد الفرق المشاركة يزداد كل عام، ويزداد عدد الفرق الصغيرة الغير مدعوة للمشاركة ، والتي تنتشر في زوايا وشوارع المدينة لتقوم بعرض اعمالها المسرحية جنبا الى جنب الفرق الموسيقية والغنائية الفلكلورية ورسامي الساحات وبائعي اللوحات والحلي والحقائب الجلدية والملابس الفلكلورية القادمة من بلدان اوربا الشرقية وافرقيا وآسيا.

     تظل عروض مسرح الساحة، جريئة تتجاوز حدود الالغام وتتجاوزجدران الصالات لتعلن مايريد جمهور الساحة، لتعبر عن حقيقة الاشياء بدون رتوش وزخرفة ،ونخاطب الضمير وتعمق في المسرح كل ماهو حي، الكلمة والحواس والشعور والموقف.  وذات مرة قال برنارد شو ان "المسرح هو علاج لأمراض المجتمع".

    روما: موسى الخميسي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media