عندما تُنقض السياسةُ البعدَ الإنساني!
    الأحد 29 سبتمبر / أيلول 2019 - 05:54
    خالد جواد شبيل
    أول الكلام:
    السياسة والأخلاق لهما جذر واحد في المفردة الأغريقية، والأخلاق كما السياسة إن فقدت البعد الإنساني سادت شريعة الغاب، وتوحش الإنسان، وما العنف والحروب التي أزهقت أرواح الملايين، الا محصلة حين تكون السياسة ومصالحها الأضيق "الحزبانية" فوق الإنسانية وفوق حب الإنسان لأخيه الإنسان...
    ومن تجربتي السياسية والشخصية المتواضعة وجدت أن هناك تعارضاً قد حصل لمرات عديدة، فقد كنت ضد الحروب، واعتبرت الحروب التي نشبت بين العراق وبين دول الجوار جريمة، واستمرارها وعدم تكريس الجهود لإيقافها جريمة أكبر، وعدم بذل الجهود وتكريسها لرفع الحصار عن الشعب العراقي جريمة... وأن المبدأ الإنساني يمثل مفهوماً واحداً للجماعات والأفراد، فلا يمكن أن تكون إنساناً مع عائلتك أو مع شعبك وتقف موقف الضد من الآخر، أياً كان ولأي سبب من الأسباب، فقد تُخطىء السياسة ويُخطىء الساسة لكن لا تُخطىء المواقف الإنسانية قط.. هذا ما أتبته التاريخ القديم والمعاصر... ولا أريد الاستغراق في مواضيع أكثر وأعمق مازال يدفع ثمنها شعبنا وبقية الشعوب ومنها الشعب الفلسطيني، الذي تصادر أراضيه ويطرد منها والعالم يتفرج، بل تطامن وتآلف وطبّع الأقربون...
    ***
    أريد أن أروي حادثة، وما يهمني في الحادثة بعدها الإنساني والأخلاقي، الذي أتمنى أن يسود، وأتمنى أن يصبح مثلاً يضاف للأمثلة الأخرى العديدة علّها تُسهم في غسل القلوب من أدرانها أولا ولعلها أيضاً تحمل في طياتها إدانة للسياسيين الفاسدين وللطائفيين والعنصريين... ولعلها أيضاً تعزز وحدة المفاهيم وتزيح كل ماهو كامن من قبيل الحقد والحسد والأنانية...
    يومها كان الفتى الكردي تيمور عبد الله أحمد في سن الثانية عشرة، في شهر شباط المشؤوم عام 1988، يوم أجبرت القوات العراقية أهالي قرية كولاجو البالغ تعدادهم 110 فرداً كلهم من الأقارب، أن يصعدوا تحت تهديد السلاح الى شاحنات، لكونهم من العملاء المعادين للحزب والثورة وفق وشاية أكراد عملاء يطمحون بحظوة من الحكومة لقاء خيانة بني جلدتهم والإضرار بهم!
    وهكذا صعد شيوخ وأطفال وأمهاتهم في شاحنات لا شيء يحميهم من برد ومن جوع ولا يعرفون وجهتهم وبعد ساعات توجهت الى الجنوب وبدت الأرض صحراوية ومناطق لم يألفوها، وها قد حل الليل حتى أنزلوا في صحراء السماوة وألقوا في حفر واسعة مُعَدّة سلفاً، ووجهت نحوهم النيران وتساقط الجميع مضرجين بدمائهم؛ أطفال على صدور أمهاتهم وشيوخ ونساء، وامتلأت الحفرة دماً وبدت أجساد الجميع ساكنة لا نأمة حياة تصدر منها.. بعد قليل يتململ وينهض تيمور الناجي الوحيد، ويتسلل تحت  جنح الليل ويمشي لا على هدى والدم يسيل من إصابات في الرجل والظهر قرب الكلية، ويهتدي الى ضوء من خيمة، فيستقبله البدو ويعالجونه بطبهم التقليدي ويشفى .. ويبقى لديهم ثلاث سنوات يحسنون وفادته ويحسبونه ابنا من أبنائهم ويأنس هو الآخر بهم ويحسبهم أهلا ونعم الأهل يحفظونه رغم الخوف والحذر..
    وحين يطلب المغادرة ويهتدي الى بعض من يعرف يساعدونه في الوصول الى بر الأمان، ويستطيع عبر الأمم المتحدة أن يصل الى أمريكا، حيث يعيش اليوم تيمور ذو الثلاثة والأربعين عاماً، ويمتلك محلاً لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات، وفي خاطره يحمل ذكرى مؤلمة عن مأساة أهله لاتبرحه ولو لحظات، وذكرى حيّة عن نبل هؤلاء العرب البدو الذين أنقذوا حياته ورأى فيهم ما يخفف من مأساته..
    يسمع تيمور باكتشاف مقابر جماعية في بادية السماوة فيسارع بالسفر الى حيث المقابر ويذهب الى أهله ويبقى عندهم عرفاناً بالجميل.. وظل تيمور يطالب المسؤولين أن يُهتم بالمقبرة وتجرى فحوص الحامض النووي للتعرف على الضحايا، علّه يهتدي الى أهله، وأن يكون العمل على لم الأشلاء بشكل متقن مع متعلقات الضحايا احتراماً للإنسان من ضحايا الأنفال بعيداً عن المزايدة والكسب السياسي!!
    المواقف الإنسانية كثيرة؛ لقد شاهدت بأم عيني عام 75، كيف وجدت ذات صباح وقد بدت الصفوف في متوسطة الفدائي في ناحية الحرية "الصليجية" فارغة فقد أخرجت الرحلات "المقاعد"، وكانت هناك بقايا مخلفات من خبز يابس وملابس مستهلكة ، لأناس شغلوا الصفوف وباتوا ليلتهم فيها، فهمنا عنئذ أنهم من العوائل الكردية حيث أخرجوا من ديارهم وهجّروا، ثم سارع أهل الناحية الكرام بإطعامهم وبناء صرائف لهم، وقد التحق بعض أولادهم بالمدارس وقسم منهم كانوا من تلامذتي في المتوسطة المختلطة..
    كانت وقفة عرب الجنوب مشرّفة يذكرها الأخوة الأكراد بامتنان لكن لا يذكرها الساسة الكرد، ورئيس الجمهورية الأستاذ برهم صالح كان وعائلته في السماوة يذكر طيبة أهل السماوة بحضور العرب، وبغيابهم يصفهم بالعرب الحفاة وفق كانب كردي اسمه محمد المندلاوي!!
    نعم يتذكر أهل الجنوب من الشيعة العرب بامتنان السيدة الجبورية من عرب الحويجة التي انقذت العشرات من الشباب من مجزرة سبايكر..
    في رواندا توجد أقلية مسلمة نمت بعد الحرب الأهلية نمواً متسارعاً والسبب هو تفاني المسلمين في احتضان وحماية أبناء التوتسو من عصابات الهوتو في منازلهم ومساجدهم بل وقدموا ضحايا بسبب احتضانهم للمستغيثين.. مما دفع بالكثيرين أن يشهروا إسلامهم..
    أسوق هذا والأمثلة عديدة ولا تحصر بطائفة أو عرق أو دين..
    ألم أقل لكم: قد تُخطىء السياسة وقد تخطىء الأحزاب، لكن المواقف الإنسانية تبقى أبدا ًهي الصحيحة، نعم هي الصحيحة!
    فما أحوجنا في أيامنا هذه أن نكون إنسانيين ونسمو على التعصب بكل أشكاله والحقد بكل ألوانه، نعم لنكن إنسانيين لا مجرد بشر!!

    28 أيلول/سبتمبر 2019

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media