الساتر الأخير!
    السبت 11 يوليو / تموز 2020 - 05:13
    عبد الرحمن اللويزي
    مشروعها مشروع دولة مؤجّل . واضحةٌ ، وبشدّة ، في الإفصاح عن رغبتها الإنفصاليه . بقاؤها ضمن عراق واحد ، مؤقّت ، ريثما تتمكن من إبتلاع أكبر قدر ممكن من الأراضي التي تطفو على «الذهب الأسود» ، والإستفادة ما أمكن من أموال الموازنة الإتحاديه . رغم ذلك ، يغضُّ عرب العراق ، شيعةً وسُنّةً ، الطرف عن ذلك . يتعاملون مع قيادات الأحزاب الكرديه على قاعدة «تحالفات القطعه» ، من دون التمعّن في مشروع تلك الزعامات ، وخطورته على المدى الإستراتيجي.

    ثلاثة ملفات رئيسة عالقة شكّلت مثلث الأزمة مع «إقليم كردستان»:

    1- م  مصير «المناطق المتنازع عليها» ، بتعبير الأحزاب الكرديه.
    2 - تتشريع قانون النفط والغاز .
    3 -  دفع رواتب مقاتلي قوات «البشمركه».

    يُجيد الساسة الكرد عرض هذه الملفات بأسلوب يوحي بأنها «حق مشروع» ، لكنها في الواقع تستبطن أغراضاً ودوافع شديدة الضرر بحاضر العراق ومستقبله . فالزعامات الكردية تدرك جيّداً - وأكثر من غيرها - معنى « عراق قوي موحّد » ، وتدرك أيضاً إن هامشها في إستغلال حكومة المركز وتسخير مواردها الإتحاديه لتحقيق مشروعها التوسعي - الإنفصالي يتعاظم كلّما زادت المشاكل والإنشقاقات في العاصمة بغداد .

    عن «المناطق المتنازع عليها»:

    في 5 نيسان / أبريل 1991 ، أصدر « مجلس الأمن الدولي » قراره 688 ، والذي طالب العراق بـ«الكفّ عن ملاحقة السكان المدنيين الأكراد» ، مع نزوح حوالى مليون شخص منهم إلى إيران وتركيا . سارعت الولايات المتحده وبريطانيا وفرنسا إلى إستثمار هذا القرار بإنشاء منطقة لـ«حظر الطيران» شمالي العراق ، عُرفت حدودها بـ« الخط الأزرق » ، وشملت محافظات « إقليم كردستان » الثلاث (السليمانيه وأربيل ودهوك) ، إضافة إلى عدد من الأقضية المتاخمه لـ« الإقليم » والتي تمّ ضمّها إلى « الخط الأزرق » نتيجة وجود أغلبية كرديه فيها (أُلحق قضاءا كفري وكلار بالسليمانيه بعد إقتطاعهما من محافظة ديالى ، فيما أُلحق قضاء عقره التابع لمحافظة نينوى بمحافظة دهوك).
    مطلع عام 2004 ، صدر قانون «إدارة الدوله للمرحلة الإنتقاليه» (بمثابة الدستور المؤقّت) ، والذي ساهم الأكراد في كتابته بشكل مباشر . ثَبّت القانون حدود المحافظات العراقيه كافةً ، ومَنَع إجراء أيّ تعديل عليها (المادة 53/ ب) ، معترفاً بـ«إقليم كردستان» الذي يضمّ محافظات دهوك وأربيل والسليمانيه وكركوك وديالى ونينوى (المادة 53/أ) . أُقحم اسم محافظة كركوك من دون أن يكون لذلك أيّ قيمةٍ قانونيه ؛ فالقيد الذي أُعتُمد في إقرار حدود « الإقليم » هو « الأراضي التي كانت تديرها حكومته لغاية 19 آذار/ مارس عام 2003 » ، وهذا يشمل محافظاته الثلاث وأقضية كفري وكلار وعقره ، ولا ينطبق على كركوك التي كانت خاضعة لسلطة المركز في التاريخ المحدّد دستورياً.

    بعد نفاذ الدستور العراقي الدائم في 28 كانون الأول / ديسمبر 2005 ، رُحِّلَتْ «المادة 53/ أ» إلى متن الدستور (المادة 140) ، حيث أُقحم أيضاً تعبيرٌ غريب هو «المناطق المتنازع عليها»، علماً بأن هذا المصطلح يُستخدم في توصيف نزاعات تكون أطرافها دولاً . وضع الدستور سقفاً زمنياً هو 31 كانون الأول / ديسمبر 2007 لتطبيق «المادة 140» ، لكن تلك المهلة إنتهت من دون أن يُحلّ النزاع . إنتهجت الأحزاب الكرديه ، طوال الفترة المُحدّدة لتسوية المشكله ، سياسة التوسّع وقضم الأراضي ، حتى بلغ عدد الوحدات الإدارية التي يُسيطر عليها « الإقليم » ، ضمن حدود محافظة نينوى وحدها (قبيل سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش») 16 وحدة إداريه من أصل 31 . وإستكمالاً لهذه السياسه ، ولربط مصالحها بمصالح الولايات المتحده ، تعاقدت حكومة « الإقليم » مع شركة «ExxonMobil»، مانحةً إياها استثمارات نفطية في ناحية القوش وقضاء الشيخان، التابعَين إدارياً لمحافظة نينوى . وبذلك ، باتت مساحة الأراضي التي تدّعي أربيل أنها « متنازع عليها » مساويةً لمساحة «الإقليم» الفعليه!
    في أحلك ظروف المعركه ، يوم كان «داعش» يتقدّم في الميدان ، قال الرئيس الفعلي لـ«الإقليم» ، مسعود برزاني ، إن «إحتلال داعش أدّى إلى تطبيق المادة 140» . من بعده ، أعلن وزير «البشمركه»، جبار ياور ، إن «الإقليم لم يعد يملك حدوداً مع الدولة العراقية ، فحدوده الآن مع الدولة الإسلامية (داعش)» ، في تصريحات عكست التخادم السياسي بين الطرفين قبل سقوط سنجار وسهل نينوى . المفارقه ، إنه بعد شهرين من سقوط الموصل ، توجّه «داعش» شرقاً بإتجاه أربيل!

    النفط والغاز:

    تصرّ أربيل على تشريع قانون النفط والغاز بطريقة تضفي المشروعية على جميع تعاملاتها وتعاقداتها ، والتي منحت بموجبها عقود التنقيب والإستخراج وحفر الآبار ومدّ الأنابيب للشركات الأجنبيه ، مخالِفة بذلك حتى تفسيرها للمادة «112/ ثانياً» من الدستور ، والتي تنصّ على «قيام الحكومة الإتحاديه وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجه ، معاً ، برسم السياسات الإستراتيجيه اللازمه لتطوير ثروة النفط والغاز ، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي» . تفسّر أربيل لفظ «معاً» بأنه يُلزم حكومة المركز بإشراكها في إدارة السياسة النفطيه ، لكن المفارقة إنها تقوم بمفردها ، وبمعزل عن بغداد ، بإدارة السياسة النفطيه وحفر الآبار في المناطق الواقعه خارج حدود «الإقليم».

    عقب الضربة الروسيه لأسطول الصهاريج المهرّبة من النفط السوري (2015) ، لجأت «البشمركه» و«داعش» إلى إستخدام أنبوب قديم أنشأه النظام العراقي السابق ، يربط بين حقول صفيّه العراقيه وحقول رميلان السوريه . ضخّت الأولى - وبطريقة عكسية - النفط السوري عبر هذا الأنبوب إلى حقول صفيّه ، وأودعته تالياً في خزانات كبيرة أُنشئت في قرية المحموديه شمال ناحية ربيعه ، قبل أن تُهرّبه عبر معبر فيش خابور بإتجاه تركيا ، بصهاريج تولّت حمايتها قوّة خاصة دُعيت بـ« التايبت » بقيادة منصور برزاني (نجل مسعود).

      رواتب «البشمركه»:

    ليس الحديث عن رفض حكومة المركز دفع رواتب مقاتلي «حرس الإقليم» (البشمركه) تعبيراً صادقاً عن حقيقة الخلاف . تشترط بغداد أن تكون تلك القوات ضمن المنظومه الدفاعيه الإتحاديه ، أي أن تكون تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحه ، بخلاف رأي أربيل التي تريد « البشمركه » ذراعاً عسكريّة تحمي من خلالها مكاسب الزعامات الكرديه ، في حال إضطرارها لمواجهة الجيش العراقي ، كما جرى - فعلياً - في عملية «فرض القانون» على هامش معارك التحرير (2017) ، حيث تمّت السيطرة على المنشآت الإتحاديه وسرقتها (كما في كركوك ، يوم أقدمت «البشمركه» على طرد موظفي «شركة نفط الشمال» ، ومن ثمّ الإستيلاء عليها).

    شعار « حقوق الأكراد » ، المرفوع في أربيل ، شعارٌ أجوف ، والدليل أن «الإقليم» كان يدفع رواتب موظفيه من حصّته من الموازنة الإتحاديه، والبالغة 17 بالمئة . ولمّا نشأت الأزمة بينه وبين بغداد ، وإمتنعت الأخيرة عن دفع الموازنه ، قرّرت حكومة «كردستان» تصدير النفط  بشكل مباشر ، ليبلغ حجم صادراتها حوالى الـ20 بالمئه من إجمالي الصادرات النفطيه العراقيه . ومع ذلك ، لم تدفع رواتب موظفيها ، بل فرضت عليهم عمليات إقتطاع إجباريه ، في وقت كانت تُروّج فيه لفكرة أن بغداد هي من تحجب الرواتب ، من دون أن تفصح عن مصير العائدات النفطيه التي يصدّرها « الإقليم » (تزيد بنسبة 3 بالمئة على الأقلّ عمّا كانت تتقاضاه من الموازنة الإتحاديه) ، والتي سُخّرت لخدمة مشروع بناء الإقطاعيات السياسيه المؤسِّسه لحكم العوائل.  

    خندق الشرف وخطّ دفاعه الأخير:

    تُشكّل قضية كركوك معيار التزام الزعامات السياسيه العراقيه بالقضايا الوطنيه المصيريه . واحدٌ من أسباب فوز حيدر العبادي في الإنتخابات التشريعيه الأخيره(أيار/ مايو 2018) مرتبطٌ بموقفه من كركوك و« المناطق المتنازع عليها » . كذلك ، تمثّل كركوك المحكّ الكاشف لعدم التزام الزعامات الكردية بشعار «مكافحة الإرهاب» ، وقد وصل بها الحدّ إلى تشكيل تنظيمات إرهابية كـ« تنظيم الرايات البيضاء» ، لقطع طريق كركوك - بغداد ، وقتل المدنيين ، وليّ ذراع حكومة المركز ، وإجبارها على إعادة «البشمركه» إلى كركوك بحجّة «ضبط الأمن» .
    كان موقف العبادي، ومن ثم عادل عبد المهدي ، الرافض للخضوع لذلك الإبتزاز ، مشرّفاً ووطنياً . لم يفرّط الرجلان بـ« عراقية » كركوك. رفضا عودة «البشمركه» إليها ، وأبقيا المدينة والمحافظة تحت السلطة المباشرة للحكومة الإتحاديه . السؤال هنا : هل يجازف رئيس الوزراء الحالي ، مصطفى الكاظمي ، بإعادة «البشمركه» إلى كركوك ، ضارباً بذلك عرض الحائط بآمال العراقيين وتطلّعاتهم؟؟.

    لقد خسر عبد المهدي الكثير ، ولكنه لم يجازف بخسارة هذا الموقف الوطني ، على رغم ما قيل عن علاقته التاريخيه بالأكراد.

    عبد الرحمن اللويزي
    نائب سابق عن محافظة نينوى

    "الأخبار" البيروتية
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media